من عالمهم الخاص ننهل الدهشة.. المبدعون المنفصلون عن واقعنا…يهبوننا الحياة بشكل مختلف
بثينة البلخي
هل حدث أن أمسكت قلما أو ريشة أو آلة موسيقية ولم تدر ما الذي تريد أن تقوله بالضبط، لتتوالى الكلمات أو الخطوط أو الأنغام من دون وعي أو تخطيط مسبق؟ هل فكرت مرة كيف تأتّى للمبدعين الكبار أن يقدموا لنا عملاً يبهر عقولنا وهم الذين ينتمون إلى عالمنا ذاته؟ ما الحالة التي تسيطر على العقل الإبداعي ليأتي بما يدهش البشر؟ ولمَ وكيف يثير فينا الاستغراب ونحن الذين يجمعنا بهم الجنس البشري؟ هل حقيقي أن المبدع ينفصل عن عالمنا لحظة الإبداع ليأتي بما هو غريب عنا ومبهر لنا؟
يعتقد الشاعر الألماني الكبير راينر ماريا ريلكه– الشاعر الذي قتلته وردة- أنه ينبغي «أن تكون لديك معارف عن الفيزياء والأشجار والأنهار والكون لتستطيع الكتابة عن زهرة أو عن شيء بسيط في هذا الكون، وعمل الفنان الكبير يتضمن الكون كلَّه!»، لكن آخرين يعتقدون أن الإبداع يتطلب من الإنسان أن يتجاهل كل ما لديه من معارف وخبرات، ليأتي بالجديد المبهر والمستغرب.
لدى سؤال «الوطن» الفنان التشكيلي الأستاذ الدكتور محمود شاهين ما إذا كان صحيحاً أن الانفصال عن الواقع المعيشي والتغلغل في الخيال من متواليات صيرورة الإبداع، رأى أنه «لا بد من مزاوجة بين الاثنين لأن الإبداع لا يأتي من لاشيء، ولا بد له من محرضات واقعية مختلفة، فحتى لا يكون تسجيليا جامدا أو نسخة ميتة عن الواقع لا بد من توشيته بالخيال الذي يمثل روح الإبداع والحامل الأساسي له».
إذاً، المسألة مرتبطة بمدى القدرة على إطلاق الخيال، وما هو إلا حالة انفصال عن الواقع، ولكنها حالة لا يشترك فيها كل المبدعين إنما « لكل منهم طقسه في ممارسة الإبداع، وبالتالي دوافعه ومحرضاته التي قد تنتمي للفرح أو الحزن أو الألم أو الحب أو الشقاء، وفي أحايين كثيرة تتداخل هذه الدوافع فيصعب تحديد ماهيتها»- حسب شاهين.
سأل أدونيس مرة الفنان التشكيلي الكبير فاتح المدرس عما يعيشه لحظة الإبداع، فأجاب أنه يمر بمرحلتين في رسم اللوحة: الأولى تبدأ كما لو أنه «بستاني يلقي بذرة في أرض فارغة قدر الإمكان، صالحة للإنبات» وينسى الموضوع، ومن ثم في لحظة ما ومكان محدد مسبقًا، وفي وضع پسيكولوجي مسبق، يتوجه إلى اللوحة ويبدأ، «كما لو أن عفريتا قبض عليَّ من كتفي وساقني أمامه إلى هذه البذرة التي بدأ اخضرارها الصغير بالنتوء! هذه حالة أكيدة أشعر بها»- يقول المدرس.
مما لا شك فيه أنه عفريت يقبض على كل مبدع، مهما كان نوع المنتج الإبداعي الذي سيقدمه، والأهم من ذلك أننا خارج إطار هذا العالم الذي يقدم لنا المبدع صورة عنه، لكننا قادرون على استيعابه، وهنا تكمن الروعة الأعظم، فهو وإن كان ينفصل عن عالمنا لكنه لا يزال قادرا على أن يخاطب عقولنا المنتمية إليه، وبالتالي يزاوج بين العالمين، ويبقي على تفرده، وقدرتنا على فهمه، وفي الوقت ذاته انبهارنا، وهنا الإبداع الذي يعرفه الدكتور عماد فوزي شعيبي على أنه «تصوير مكثف للحب، وإنتاج شيء لم ينتج قبلاً، وميزة الحب والإبداع أنهما يخلقان الدهشة لأنهما يخرجان عن المألوف».
إنه حب يصوره الفنان شاهين على طريقته فيجسده باستمرار الحياة، حيث يرى أن «من المهام الرئيسة للفنان أن يقدم أسبابا دائمة للحياة وحبها عبر منجزه الفني وإبداعاته المختلفة، وهذا ما يجب على الفنان التشكيلي أن يقوم به خلال المرحلة القادمة من تاريخ سورية سواء من خلال العمل الفني التقليدي الرسم، اللوحة، المنحوتة، المحفورة، المطبوعة، أو من خلال انخراطه في مرحلة إعادة الإعمار وترصيع سورية الجديدة بالأعمال الفنية المختلفة».
من المؤكد أن المبدعين سيرسمون المراحل القادمة من تاريخ سورية بلون مختلف أياً كان مجال إبداعهم، فهم لم يعيشوا هذه الحرب كما سواهم، حتى وإن كانت المعاناة شملت جميع من في الوطن، وكواحد من المبدعين يقدم شاهين شهادته على ما تركت فيه الحرب من أثر فيقول: «أهم ما يميز الفنان حساسيته وتأثره الشديد بما يجري حوله، فما بالك بأزمة تطال كيانه المادي والروحي وتهدد وطنه ومستقبله، التأثر واقع يعيشه الفنان لحظة بلحظة، غير أن طبيعة العمل الفني التشكيلي الذي لا يتعامل بالفعل ورد الفعل السريع والمباشر قد يؤخر ظهور هذه المنعكسات في المنجز الفني الذي يحتاج إلى مرحلة من الكمون والتخمر لتظهر منعكسات الأحداث الكبيرة والخطيرة التي تهز وجدان الفنان وفي طليعتها تعرض وطنه واستقراره وأمنه الخارجي والداخلي للخطر».
ولعل من المفيد هنا التذكير بتقسيم منحنى غاوس (Gauss) الإحصائي للبشر أقساما عدة؛ قسم متخلف عقليا ويساوي 2.5- 5 بالمئة، وآخر متوسط الذكاء ويبلغ 68.24 بالمئة، وقسم ثالث عبقري لا يتجاوز 2.5 بالمئة، وبين المتوسط والعبقري يقع الجيد والجيد جداً والممتاز، وهؤلاء يغطون النسب الباقية، والمنطق يقول إن كل قسم من هؤلاء يواجه اختبارات الحياة وظروفها، ويتأقلم معها على نحو مختلف عن غيره، حسب قدراته العقلية والإبداعية، ما يعني أننا سنكون مستقبلا – ونحن هنا يحكمنا التفاؤل بانتهاء الأزمة وبدء مرحلة من الانتعاش والإبداع في هذا البلد المكلوم- أمام مبدعين ومنبهرين بإبداعهم.
في البداية، كان الهدف من المقال البحث في حالة الانفصال عن الواقع التي تسيطر على الفنان لحظة الرسم، ومدى خصوصيتها لكن السمات التي تجمع الفنان الرسام مع غيره من المبدعين في مجالات مختلفة خلصت بالمقال إلى البحث في الإبداع كحالة عقلية بشرية تغوص في عالم مختلف لتخلق أفكاراً فريدة تشكل إضافة حقيقية للنتاج الإنساني؛ وأكثر من ذلك، وفي خضم الإطار الزمني الذي يحكم كتابة المقال – الحرب التي تعيشها سورية- بدا وكأنه جزء من ملامح هذا الإطار، يسأل المبدعين أن يقدموا لنا من عوالمهم الخاصة ما نقوى به على هذه الأيام، أو أملا ننتظر به يوماً يشرق فيه إبداعهم، فيمحو عنا آثارها البغيضة.