يأخذ بنا إلى فهم ما تستند إليه الأمم والشعوب، وأهمه تاريخنا العربي، بل أهم من ذلك مصادره ومراجعه الأولية، فلا شيء يولد من لا شيء، ولا لشيء أن يصير لا شيئاً، وهذا منطق غريزة العقل الإنساني التي تقول: «إذا مات الإنسان فالحياة لا تختفي»، أي إنها لا تتحول إلى لا شيء، بل هي تبقى، كما أن في العالم مجموعة من القوى والطاقات الخفية والظاهرة تكفي لخلوده مبعدة إياه عن نهايته، هذه القوى لا يمكن أن تأتي من لا شيء، أو تمضي إلى العدم، ومنها أدخل في عمق الفكرة لأقول: إذا لم يكن للإنسان أو للطبيعة بذاتهما عنصر مقدس، فلا بد أن يوجد خارجاً عن الإنسان وعن عالم الطبيعة.
هنا أجدني أخطُّ إلى كوكبة المهتمين وإلى من سبقني في المناداة لنقل التاريخ من ميادين الخصام والنزاع والحروب والنقد إلى مجالس الدرس والتدقيق والتمحيص في مسائل ما وردنا منه، ليقوم الجمع بالبحث المعمق كي نصل إلى النوعية التي تقربنا من فهم الحقيقة، أو على أقل تقدير الاقتراب منها.
ألسنا أحق الناس بفهم تاريخنا؟ لذلك هل يدرك الإنسان حقيقة ما يستخدم، حقيقته وقيمته الموضوعية؟ هذا الكلام يدخلنا إلى مغاور التاريخ، الذي نجد فيه «أن مجتمعاته إنما تعبد نفسها»، وإن كل ما وردنا يدلنا على أنها وضعت وأسست الطقوس البدائية لتحقيق تلك الفكرة، التي ما زالت مستمرة حتى اللحظة، نمارسها ضمن مرحلة اللاوعي التي سكنت العقول، وتمارس أعمالها في الوعي الافتراضي.
فالحركات والتراتيل والمزامير والصلوات واليوغا تشير إلى بعثها في النفس البدائية أحاسيس عجيبة عن سطوة الماضي وسيطرته عليها، هذه التي تترك في النفس آثاراً عجيبة عن قوة تلك الطقوس التي تأخذ إلى الشعور بقوة عليا، تتربع فوق القوى الإنسانية، ففكرة الحلم فكرة الطبيعة، وحتى التأمل فيهما يعتبر من الوقائع التجريبية، تخصّ الفرد الذي اختصَّ بها، والمقدس خارج عن أن يكون ذا منشأ إنساني، أي إن له أصلاً يتجاوز الإنسان الفرد، ليكون ذا أصل اجتماعي.
الإنسان يتعلق دائماً بالقيم النبيلة، هذه التي أنجزتها الجماعات المثالية المترفعة والمراقبة للجماعات المتعلقة بالأنظمة المادية الدنيوية الغارقة في مناحي الظلم والتحلل الأخلاقي، وتمتلك الادعاء الكاذب، وإذا كان التشوُّق للأفضل، ولكي يشعر الإنسان بوجود شيء سامٍ وخارج عنه، فإننا نلاحظ أن هذا التشوُّق والحماس يكتسب بالتأمل وفي الاعتزال أو الاعتكاف، من أجل الوصول إلى الأسمى بعد تحديد الخطايا، ليس من المعقول قطّ أن يكون الدين منحصراً بالطقوس، فإذا كان كذلك أُطلق عليه التديّن، ولأن الديّن يعني العمل والمعاملة وفهم الحياة ومقتضياتها، لذلك كان التدين بنداً من بنود الدين، يأتي بعد المعاملة، وبشكل أدق هو نظام من أنظمة الحياة التي لا تكتمل إلا بتناغمه معها.
هذا النظام الديني النبيل ناشئ عن قوى لا مرئية، نطلق عليها لا مادية وقوى ميكانيكية آلية، وقد حضرَ نتاج فكرة تحركت مع تفعّل غريزة التوحيد ضمن جنسنا السامي، هذا الذي ارتقى من المجموع البشري، وكان سابقاً في وصوله إلى تأسيس ديانة «إله السماء» القائمة على المعرفة والحب التي تعتبر أقدم ديانة في حركة الوجود البشري، ما أسَّس بعد ذلك لتعدّد الآلهة وتنوع الديانات، وصولاً إلى ظهور عهد جديد في تاريخ الأجناس والأديان، ألا وهو عهد التوحيد الذي تفرعت عنه اليهودية والمسيحية والإسلام.
اتجه الإنسان الأول، والذي كان قليلاً جداً والمنتشر على اليابسة أينما وجدت للبحث عن وجود الخالق أو الصانع، هذا الذي نسب إلى الأب الأول، وكلمة الأب أو أبي أو أبونا رغم أنها حالياً تعتبر الأب المادي، إلا أن معناها الجوهري كان الأب الروحي، الذي يعتبر الموجود الأسمى، والذي جسد خلق الكون وصناعته، ليتطور مع تطور الإنسان إلى مسمى أسمى وهو «خلق الحياة»، ونسبت إليه السرمدية والعلم الكلي، وأنه الخير بكامل أبعاده.
لماذا كان كل هذا العمل الأولي؟ لأنه أيضاً يلبي في جوهر الإنسان مطالبه الشعورية من ثقة وحب ومجد وشكر، حيث يشبعها هذا الموجود الأسمى، الذي يأتي منه الخير، ولا شيء غير الخير، فالإنسان بحاجة إلى حامٍ يلجأ إليه، ويخضع لمشيئته، ليجدده بالقوة على الحياة، والقدرة على العمل، والإيمان بالحب، والثقة بالنجاح، هذا الذي أحيا في داخل الإنسان أن الله هو سيّد الإنسان، والعلاقة بينهما ليست علاقة عبودية، إنما علاقة تبادلية، نطلق عليها الحب في الإيمان، هذا الإيمان فتح للإنسان آفاقاً واسعة، لكي يسمو إلى أرفع الدرجات في الأمكنة الوجودية، وبه تمَّ تجسيد الله للإنسان ضمن وحدة المطالب والحاجات الروحية، من دون انتقاص أيٍّ منها.