قضايا وآراء

«بيان» سان بطرسبورغ

| عبد المنعم علي عيسى

تقول التقارير إن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي يوم الجمعة الماضي 17 حزيران كان قد تأجل ساعة كاملة بسبب وجود «هجمات سيبرانية»، والمؤكد أن الفعل، أي إلقاء الخطاب عند رجل تتجه أنظار العالم نحو كل كلمة يقولها في هذه الآونة، أمر لا يدعو فقط إلى تصديق ما تناقلته تلك التقارير، بل يدعو أيضاً للتساؤل كيف لم تستطع تلك الهجمات، الصادرة بقرار غربي على أعلى المستويات بالتأكيد، تأجيل ذلك الخطاب لمدة أطول، أو ربما جعل حدود الصوت لا تتعدى حدود القاعة الفارهة التي ألقي فيها، إذ لطالما كان من المؤكد أن الرئيس الروسي سوف يتعدى في خطابه البعد الاقتصادي، الذي يمثل الغاية الأهم للمنبر الذي يتحدث من عليه، ليطاول السياسات والعلاقة الشائكة مع الأميركيين والأوروبيين، على الرغم من أن البعد الأخير، أي الاقتصادي، بات هو الساحة الأبرز للصراع، وهو سيحدد نتائج المنازلة الحاصلة راهناً ما بين روسيا والغرب.

ما قاله بوتين كان كثيراً، ودلالاته كذلك كثيرة، لكن أهم ما ورد فيه يمكن إيراده في محاور ثلاثة، الأول هو التركيز على إخفاق الغرب في عزل روسيا، فثلاثة أشهر من العقوبات الغربية على روسيا أثبتت أن محاولات الغرب لضرب الاقتصاد الروسي لم تنجح، وفي ذلك سيؤكد بوتين أن «النجاحات الغربية الجزئية التي تحققت في هذا السياق سوف تتقلص في المرحلة المقبلة»، وروسيا ماضية في البحث عن شركاء على امتداد القارة الآسيوية وفي إفريقيا وأميركا اللاتينية ممن أوصلتهم رؤاهم إلى بناء الشراكة القائمة على المنفعة بعيداً عن المواقف السياسية تجاه الصراع الدائر راهناً في أوكرانيا، وفي هذا السياق قال: إن «خسائر الاتحاد الأوروبي المباشرة من فرض العقوبات على روسيا بلغت حتى الآن 400 مليار دولار»، والثاني يندرج في سياق اعتبار الصراع الأوكراني من النوع «التحولي» وفي ذاك أكد بوتين أن الصراع الدائر بين روسيا من جهة وبين الغرب الأطلسي من جهة أخرى سيؤدي إلى تحولات سياسية كبرى على امتداد العالم، وساحتها الأهم، وفق بوتين، ستكون أوروبا، التي كانت «منبع» التحولات العالمية الأول على امتداد قرون سابقة، لكن اليوم ستكون أوروبا على موعد مع أن تصبح «مستقراً» لتلك التحولات بعد أن فقد «الاتحاد الأوروبي سيادته تماماً» وتحول إلى «منفذ لكل ما يملى عليه»، وهذا الوضع «سيؤدي إلى تصاعد الراديكالية، وفي المستقبل القريب سيؤدي إلى تغيير النخب الحاكمة»، و«القيصر» الذي أصر على نعي نظام القطبية الأوحد الذي اعتبرت فيه الولايات المتحدة نفسها بعيد انتصارها في الحرب الباردة «رسول الرب على الأرض»، قال إن «النخب الغربية تتمسك بأشباح الماضي، وتعتقد أن هيمنة الغرب الاقتصادية هو عامل استقرار للعالم»، ثالث المحاور يتناول عثرات التجربة التي ارتأى بوتين أن أكبرها يكمن في الفجوة التكنولوجية الكائنة بين الغرب وروسيا، ليخلص للقول: «لا بد من التوصل إلى مفاتيح التكنولوجيا والوصول إلى الاستقلال التكنولوجي».

من المؤكد أن المحاور الثلاثة التي عرض لها الرئيس الروسي كانت كافية لرسم صورة واضحة عن القراءة والمنهج، التي تدير بها موسكو الصراع الراهن في أوكرانيا بعد أن بات أشبه بحرب «عالمية» تجري داخل جغرافيا محدودة، لكن من الجائز للمتابع أن يضع خطوطاً تحت بعض التصورات، مما يشير إلى وجود إشارات استفهام حولها، ففي المحور الأول الذي أكد إخفاق الغرب في ضرب الاقتصاد الروسي، وهو صحيح، لكن صحته مرحلية، ورزم العقوبات التي بلغت 6 حتى الآن، لن تتوقف عند الحدود التي وصلت إليها، ثم إن تلك العقوبات، في جلها، هي ذات أثر تراكمي، بمعنى أنها تحتاج للوقت، الذي قد يطول، لكي تصل إلى آثارها الموجعة، وفي الثاني الذي يرى أن الصراع سيفرض تداعيات كبرى، سترتد آثارها بالدرجة الأولى على القارة الأوروبية، تطول التركيبة السياسية والمجتمعية لهذي الأخيرة، يمكن القول هنا: إن فقدان القارة الأوروبية لسيادتها وارتهانها للقرار الأميركي الذي أشار إليه بوتين، لا يقود إلى زعزعة الهيمنة الأميركية، ولا يساعد في تفكيك نظام القطب الواحد الذي قال عنه إنه انتهى، بل على العكس سيكون له تداعيات تطيل من عمره، فنجاح واشنطن في جذب الأوروبيين أكثر إليها تحت أي صيغة كانت، هو فعل من النوع الإستراتيجي الراسم لتوازنات جديدة من شأنها تعزيز الإطالة سابقة الذكر، وفي المحور الثالث المختص بردم الفجوة التكنولوجية التي ثبت عمقها عبر إغراق الطراد «موسكوفا»، فإن الفعل، الذي يتحتم لنجاحه أن يكون «تبادلياً»، سيحتاج، والحال هذه، إلى طريق طويل وخصوصاً في ظل إغلاق الباب الغربي، الذي بات موصداً تماماً في هذا الاتجاه، وهو يحتاج إلى «الباب» الصيني، الذي اتسعت مصراعيه مؤخراً بدرجة مقلقة للغرب، في الوقت الذي يبدي هذا الأخير حذرا باتجاهات شتى لعل من أبرزها الشق التكنولوجي الذي إذا ما قررت الصين مساعدة روسيا فيه، سيعتبر بالتأكيد انخراطاً في دعم الأولى للأخيرة من شأنه أن يزيد التوتر الصيني – الغربي الذي بات قابلاً للانفجار أيضاً على وقع تصاعد التوتر مع تايوان، وفي الحسابات الصينية فإن بكين لا تريد الوصول إلى هذي النقطة الأخيرة، مع الأخير، أقله في هذه المرحلة.

في خلفية الصورة التي يرسمها خطاب بوتين في سان بطرسبورغ بدت روسيا «جريحة» لكنها عازمة على لملمة الجراح، وصولاً إلى ترميم شبيه بذاك الذي حصل ما بعد 9 أيار 1954، ومن خلاله استطاعت القيام بالفعل على الرغم من استبعادها من «مشروع مارشال» الأميركي، لكن النجاح هنا ممكن فقط بوجود بديل يمكن تسميته مشروع «مارشال» الصيني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن