قضايا وآراء

أوروبا ونقطة اللاعودة

| هديل علي

باتت رياح العقوبات الغربية ضد روسيا تعصف بأوروبا في كل الاتجاهات، وبدأت معها الاحتجاجات الشعبية الرافضة للسياسات الأوروبية الرسمية، وما ينتظرها أسوأ بكثير مما هو مخطط لها.

من مولدوفا تبدأ نقطة الانهيار الأوروبي، تظاهرات تضم الآلاف من أنصار المعارضة نظمها حزب «شور» وسط العاصمة «كيشيناو» للمطالبة باستقالة الرئيس، وحل البرلمان الذي يسيطر عليه حزب العمل والتضامن الموالي للاتحاد الأوروبي، وذلك كله بسبب إخفاق الحكومة في احتواء ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والغاز وموارد الطاقة، والانخفاض العام في مستوى المعيشة، وخاصة أن الحكومة المولودوفية ذهبت باتجاه استخدام القوة والقمع، عندما اعتقلت الرئيس السابق للبلاد، ورفعت الحصانة عن نائبين في البرلمان عن حزب «شور» المعارض كما اعتقلت المدعي العام.

كل ما يحصل هو مقدمة صغيرة لما ينتظر أوروبا، التابع الأعمى لأميركا من كوارث، وخاصة من جهة ارتداد العقوبات الغربية ضد روسيا، وهو أمر أكده أستاذ الفلسفة والمؤرخ البريطاني باتريك والش، الذي قال: إن العقوبات الاقتصادية ضد روسيا تنقلب ضد أولئك الذين فرضوها، وإن تلك العقوبات تأتي بأموال إلى روسيا أكثر مما كانت تجنيه حين كانت تزود أوروبا بكميات أكبر من موارد الطاقة.

الخبير البريطاني تحدث صراحة عن تحليلات ذكرناها سابقاً، وذكرها سياسيون روس، بأن الولايات المتحدة طلبت من أوروبا أن تنتحر اقتصادياً، بالتسبب بكساد، وارتفاع الأسعار على المستهلكين، وامتثلت معظم الحكومات الأوروبية لأمر واشنطن ليرتفع معدل التضخم إلى مستويات لم تعرفها أوروبا منذ عقود.

المخطط الأميركي بات أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، وقرار تفكيك الاتحاد الأوروبي تعمل واشنطن بهدوء على تطبيقه، فحلم تشكيل جيش أوروبي انتهى إلى غير رجعة، مع خسارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للأغلبية البرلمانية في المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية، وألمانيا بعهد شولتس ليست ألمانيا نفسها بعهد ميركل، لتبقى بروكسل وسياستها تحت إمرة الولايات المتحدة وما يخدم مصالحها فقط، ولعل الإعلان المبارك أميركياً من قبل لندن عن فكرة إنشاء كتلة أوروبية جديدة تشمل بريطانيا وبولندا وأوكرانيا ودول البلطيق، دليل إضافي على ما سبق من النيات المبيتة لتقسيم الاتحاد الأوروبي ككيان سياسي واقتصادي قد ينحاز إلى الطرف الروسي يوما ما.

رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسن أعلنها صراحة، بأن الكيان الأوروبي الجديد أشبه بنسخة من المشروع البولندي المعروف بـ«إنترماريوم»، مضافاً إليه بريطانيا بوصفها «الأخ الأكبر»، بحجة تعزيز إمكانات تلك الدول الدفاعية، بحسب الممثل الدائم للولايات المتحدة لدى الناتو جوليان سميث الذي قال بالحرف: «إن الحلف يهدف من إنشاء التحالف الجديد إلى تعزيز الجناح الشرقي للناتو بشكل جدي»، أي تقسيم الاتحاد الأوروبي إلى كانتونات صغيرة يسهل التحكم بها بعيداً عن أحلام الاستقلال السياسي عن واشنطن، بل تبقى باحتياج دائم لحمايتها كما رُسِّخ في أذهان الشعب من «البعبع الروسي القادم من الشرق».

أوروبا كاتحاد سياسي واقتصادي بدأت بالانهيار، وتقسيمها ضرورة أميركية كي لا تذهب كتلة ضخمة للانحياز إلى جانب روسيا، في تشكيل جيوسياسي دولي جديد قادم لا محالة، هو النظام العالمي الجديد القائم على تعدد القوى العظمى أو تعدد الأقطاب، فذهاب جزء أفضل لواشنطن من ذهاب الكل، وقد بدأت الآن نقطة اللاعودة بالنسبة لأوروبا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن