ثقافة وفن

ميلاد الشايب رسام الواقعية السحرية … بقي الخط قوياً عنده ولم تغب إرشادات أساتذته عنه … رسم بلدته معلولا ولم يقف عند فرادة بيوتها بل دخل في جوهرها

| سعد القاسم

لا تقف أهمية ميلاد الشايب (1918 – 2000) عند وجه واحد من أوجه تميزه. فهو المعلم الأكثر رسوخاً في ذاكرة خريجي كلية الفنون الجميلة منذ ستينيات القرن الماضي، وحتى خواتمه. ومصور الأيقونات السوري الأشهر في عصرنا. والفنان الواقعي إلى حد الإعجاز والإبهار، مع نكهة إبداعية خاصة تحول دون انجراف لوحته إلى واقعية فوتوغرافية. وهو إلى ذلك قد يكون أول تشكيلي سوري ينال جائزة رسمية عن عمل فني.

معلولا البداية

ولد ميلاد الشايب في قبلة التشكيليين السوريين (معلولا)، وعاصر توفيق طارق، رائد الفن السوري، ورسم معه. وفي سن الثامنة عشرة نال جائزة برونزية من معرض عام 1936 الذي أقيم في مبنى وحدائق ثانوية التجهيز الأولى بدمشق (حالياً ثانويتا جودت الهاشمي، وأبن خلدون)، بمناسبة الإفراج عن المبعدين السياسيين الوطنيين والسير في طريق الاستقلال، وكان هذا أكبر معرض عرفته المدينة قبل معرضها الدولي، عُرضت فيه بعض المصنوعات المحلية وبلغ عدد زواره 500 ألف زائر. وقد نال ميلاد الشايب ميدالية ما سمي ذلك الوقت صناعة الرسم اليدوي، لأن المعرض أساساً كان معرضاً صناعيا أُلحقت فيه الفنون.

درس الفنون في معهد (سوريكوف) بموسكو وتخرج منه في عام 1965. وفي عام 1968 نال جائزة الدولة التشجيعية من المجلس الأعلى للفنون والآداب. وتكريم رئيس الجمهورية مع الفنانين الرواد بميدالية ذهبية تقديرا لعطائه المميز عام 1996، وكرمه البطريرك أغناطيوس هزيم بوسام النجمة الفضية. كما تم تكريم ذكراه في الموسم الرابع لأيام الفن التشكيلي السوري العام الماضي (2021).

أصول وتعليم

تشير المقارنة بين لوحاته أثناء الدراسة وبعدها إلى ثبات قوة الخط عنده، بخلاف حالات تتراجع فيها قوة الرسم بعد التخرج، ربما بحكم غياب إرشادات الأستاذ، أو غياب الأستاذ ذاته، ويمكن أن تكون تلك الإشارة دلالة على استقلال شخصيته عن شخصية أساتذته. ففي (لوحاته الروسية) نجد ذات الرسام الذي شاهدنا بعد ذلك في (لوحاته السورية). كل شيء كان موجوداً في الحالين: قوة الرسم، متانة التكوين، صحة الضوء، سلامة الألوان. الشيء الوحيد الذي اختلف هو موضوع اللوحة ومناخها اللوني، ففي لوحة تصور فتيات يحملن جراراً عند نبع ماء جبلي، تدل أثواب الفتيات عن المكان كما تدل عليه الجرار والصخور وألوان السماء، وبالمقابل تدل الملابس والطبيعة وشكل الجرة، على المكان المحلي في إحدى أشهر لوحاته (محادثة) والتي تصور فلاحين يستريحان إلى ظل شجرة تحيط بهما أرض خصبة. كما يبدو ما سبق في المقارنة بين لوحة مائية لموسكو تحس أعيينا فيها بالهواء المشبع بالماء، في حين تكاد أشعة الشمس تلسعنا في لوحة غير تقليدية عن معلولا.

ولمعلولا سحرها

ميلاد الشايب ابن معلولا الأصيل، والأصيلة، رسم بلدته الساحرة مراراً – كحال الكثير من التشكيليين السوريين – لكنه لم يتوقف عند فرادة مشهد بيوتها المتصاعدة على الجبل، فإلى ذلك صور حاراتها في السهل، وبيوتها المبنية على سطح الأرض، ومشاهدها عن بعد محاطة بالأشجار والجبال. صورها كابن لها مقيم فيها، يعرف كل مكامن سحرها. لا كزائر مبدع استوقفه السحر الأول.

براعة ميلاد الشايب وقدرته الكبيرة تجلت أيضاً في الوجهيات (البورتريه)، رغم قلة ما وصلنا منها، ذلك أن معظم اللوحات الوجهية التي صورها قد ذهبت إلى أصحابها. غير أن نتاجه الإبداعي الأكثر كان في رسم الأيقونات والمشاهد الدينية، حتى تكاد لا تخلو كنيسة في دمشق أو في ضواحيها من عملٍ، أو أعمال، موقعة باسمه. ومنها عدة أيقونات في معلولا تعرضت للتخريب وتم ترميمها بعد تحرير المدينة. وفي جميع أعماله الأيقونية كان ميلاد الشايب أميناً لتقاليد مصوري الأيقونة السوريين الكبار، واستمراراً لهم. ولانشغاله في هذا المجال، وكذلك في مجال التعليم، غاب اسمه مراراً عن الذاكرة حين الحديث عن الفن التشكيلي السوري.

الفنان والمعلم المخلص

الفنان والمعلم الرائع الذي منح مهنة التعليم نكهة أبوية تدوم لزمن أطول بكثير من الوقت الذي منحته له الحياة، كان من أول الوجوه التي يقابلها طلاب كلية الفنون الجميلة الجدد خلال أربعة عقود، إن لم يكن الوجه الأول الذي يقابلونه. وعلى يده تعلم معظم من مروا على الكلية، كأساتذة وطلاب مميزين، كيف يمسكون بقلم الرصاص وكيف يخططون به الرسم وينقلون عن الواقع. وكثيراً ما اصطحب طلابه لمعلولا ليتابعوا نهج الفنانين السوريين الكبار في تصوير هذه البلدة الفريدة، مانحاً إياهم معرفته وخبرته ومحبته، وكأنه يرعى أطفالاً صغاراً لا طلاباً جامعيين. والأغرب أن اعتداد هؤلاء بأنفسهم لم يحل دون الاستسلام برضى، لحالة طفولة تشوقوا باكراً لمغادرتها. ‏

كتب الفنان المعلم محمود حماد، العميد التاريخي لكلية الفنون الجميلة: «إن منهج شعبة التصوير في الكلية يستند بادئ ذي بدء على تعليم الطلبة الأصول الأولى للفن، ولنُقُل (تعليم) اللغة أو الألف باء، مع تعويدهم منذ اللحظات الأولى على التفكير والمحاكمة.. ». ومن المؤكد أن الفنان فاتح المدرس كان أحد الذين أدوا المهمة الثانية باقتدار. أما المهمة الأولى فكانت، بالدرجة الأولى، من نصيب الفنان ميلاد الشايب. لقد تخطت سمعة ميلاد الشايب كأستاذ بارع حدود الكلية، حتى صار الطلاب الراغبون في الانتساب إليها يلجؤون إليه لتعلم مبادئ الرسم. وكان كثير من أساتذة كلية الفنون الجميلة يحيلون إليه الطلاب الراغبين بالانتساب للكلية حتى يدربهم. وعلى مدى سنوات كثيرة قام بهذا العمل طوعاً دون أدنى تذمر.

في عام1981 أقامت مجموعة من الطلاب إثر تخرجهم معرضاً في المركز الثقافي السوفييتي بدمشق تحت عنوان:(تحية إلى ميلاد الشايب) افتتحه الفنان فاتح المدرس وكتب في تقديمه: «شاهدت ابتسامته؟ إنها حزينة، بريئة، ساخرة.. لكن هل شاهدت قلم الرصاص وكيف يرقص في يده؟ إنها رقصة زمن الحضارة في قلوب الفنانين الكبار أمثال فنان معلّم.. فما أروعه من فنان معلّم».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن