من دفتر الوطن

سفرجل الكتابة

| حسن م. يوسف

خلال خدمتي على جبهة الحروف تعرفت على نماذج لا تحصى من البشر ينحدر بعضهم إلى الحماقة والجنون ويرتقي بعضهم إلى العبقرية والحكمة، كما تلقيت آلافاً مؤلفة من الرسائل بعضها يزينها العقل والمنطق وبعض آخر منها تشي بانفصال من كتبوها عن الواقع انفصالاً تاماً.

قبل أيام تلقيت رسالة تتكون من أربع كلمات لا غير: «اعمل مني نجماً، أرجوك». وقد ذكرتني هذه (البرقية العاجلة) بواحدة لا تقل عنها غرابة تلقيتها قبل حوالى ثلاثة عقود جاءت بصيغة الأمر أيضاً وتتكون من أربع كلمات: «علمني كيف أكتب مثلك».

أصارحكم أنني لم أجب على هاتين الرسالتين، فأنا أومن أنه ما من أحد في هذا الكون يستطيع أن يصنع منك نجماً حقيقياً سوى نفسك، وإذا استطعت أن تجد من يعلمك كيف تكتب مثله، فستكون عندها لصاً، لأن الإبداع هو خلق على غير ما قياس، والطبيعة الفريدة للعلوم الإنسانية تجعل تقليد أي عمل إبداعي نوعاً من السرقة.

صحيح أنني علَّمت كتابة السيناريو وتحليل الأفلام في المعهد العالي للفنون المسرحية وما أزال أعلّم مادة السيناريو في دبلوم العلوم السينمائية وفنونها، كما أعلّم مادة مشابهة في المعهد العالي للفنون السينمائية، إلا أنني أوضح للطلبة في أول لقاء لي معهم أن منهجي التعليمي مقتبس من سقراط (469 – 399ق. م) وخاصة قوله: «أشير إلى مفاتيح الدروب، وأرشد إلى مواقع الخطوات السليمة الأولى، وأدع البقية لمن أراد المسير، كل حسب هواه وطاقته».

لهذا يحزنني من يظنون أن الكتابة مجرد حرفة يستطيع أي كان أن يتعلمها بشيء من الجهد! ويحزنني أكثر من هؤلاء، ذلك الموهوب الكسول الذي يظن أنه يستطيع أن يضيء دون أن يحترق، غير أن من يحزنني أكثر من الجميع هم أولئك المعجبون بخطواتهم الأولى الذين يطلبون المديح لا النصيحة. وإذا ما قلت للواحد منهم إن نار الكتابة لا تبقى مشتعلة إلا بفضل حطب القراءة، ظن بك الظنون وأقنع نفسه بأنك تغار منه وتخشى أن تغطي أنواره عليك.

أومن أن معظم من يسمعون النصيحة لا يحتاجونها، وأن معظم من يحتاجونها لا يصغون إليها، رغم ذلك أحاول في معظم الأحيان أن آخذ بنصيحة ابن حزم الأندلسي: «لا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، ولكن على سبيل استعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة، والشفاعة وبذل المعروف».

في ضوء ما سبق أنصح من يود أن يشتعل بنار الكتابة أن يكون جريئاً وصادقاً، فبالجُرأة يخطو المبدعُ إلى الأمام، وبالصِدقِ وحده يستطيع الكاتبُ أن يحولَ فحمَ حياتِهِ اليومية إلى ماسٍ!

أوصيك يا من تريد أن تصبح كاتباً ألاَّ تستخدم أي كلمة لا تعرف معناها تمام المعرفة، كما أوصيك بأن تمتصَ عصارة الكلمات والمعاني من نصوص الآخرين، كما يمتص جسمُكَ خلاصة الغذاء ويحولُه إلى حركة وأفكار، عليك أن تحررَ الكلمات من ظلال الآخرين، وأن تهضمها جيداً بحيث تصبح جزءاً منك، وعندما تكتمل معرفتُكَ بالكلمات والمعاني ويكتمل تَمثُّلُكَ لها، عندها تصبح كل كلمة تكتبها ملكاً لك كما لو أنها مقتطعَة من لحمِكَ الحي، الذي لا يشبه لحمَ أحدٍ سواك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن