ثقافة وفن

اللوحة النحاسية وما تبقى

| إسماعيل مروة

كانت حادثة طريفة وقعت معي قبل أربعين عاماً، كلما تذكرتها أشعر بالغبطة على رحلة طويلة بدأت قاسية مريرة، وانتهت بحالة من التصالح التام مع النفس والحياة والناس، خلت من الحقد والكره، ولم تقترب- لظروفها- من المظلومية والبكاء… وكلما رويتها لصديق لم يملك نفسه من الضحك طويلاً لهذه السذاجة والبساطة!

قبل أربعين عاماً أو أقل زرت أول مرة مكتب الأديب المفنّ أحد سادة الخط وفنونه، والرجل الأديب والشاعر المتخصص في العربية، والمتشعب في شتى فنون القول والحياة الأستاذ أحمد المفتي- حفظه الله- وكنت برفقة شخص لا أذكره اليوم، طلب من الأستاذ المفتي أن يخط له اسمه، فنظر إليَّ وقد بدأ بملاعبة قصبة الخط وقال بصوت مميز: ألا ترغب أن أكتب لك اسمك؟ فاستيقظت الأنا عندي، وقلت بلى، أريد أن أطبع بطاقة، وأن أكتب اسمي لأضعه على باب بيتي، ومن دون مقدمات تفضل الأستاذ الكبير وكتب اسمي وبعض المعلومات التي أمليتها، وكلها كانت من الأمنيات، وبعد أسبوع أعطاني بطاقات أنيقة تليق بأصحاب المكانة لا بي، وما أزال أحتفظ ببعضها، وصرت أضع في جيبي منها لأوزعها والهاتف المدون هو هاتف منزل أهلي فأنا لا هاتف لدي، وحين سألني الأستاذ المفتي عن لوحة الباب، حددت القياسات للنحاسية وشكلها، وصنعها عند زنكوغراف خلال أيام، فجئت بها، وأنا لا أدري ماذا أفعل بها، فأنا ليس لدي بيت أو شبه بيت، فوضعتها في حقيبة جلدية متواضعة، وصارت الحادثة للتندر، لوحة الباب موجودة وبقي البيت، وانتظرت أكثر من ربع قرن حتى عدت من الاغتراب، لأستخرج هذه اللوحة وأضعها على باب بيت استهلك مني كل هذا العمر حتى صار.

وأحياناً يتفضل عليك أحد الأصدقاء ويقدم لك ربطة عنق فاخرة، جاءته هدية، فتأخذها ضاحكاً، لأنك لست ممن يملكون الطقم الرسمي المناسب لوناً ومكانة لهذه الربطة، وربما تنتظر وقتاً طويلاً حتى تتمكن من اقتنائه، لكن الذي يحدث أن الموضة انتهت ما بين طويل وعريض ورفيع ورسوم وما شابه، فتصبح ربطة العنق الفاخرة مدعاة للسخرية.

في كثير من مفاصل حياتنا نجلس بالأمنيات والانتظار…

فنحن نشتري ثياب الطفل القادم قبل أن يرى النور، وربما وضعنا مناهج قبل أن نؤسس المدارس، واشترينا المقاعد قبل أن نبني الصفوف، ونتحدث بالأخلاق العليا قبل أن نبني الإنسان، ونرسم معالم الجنة والنار قبل أن نعيش الحياة! فكم من طفل صغير أو يافع وضعنا أمامه خطوط الجنة والنار والآخرة قبل أن يخطو خطوة واحدة في حياته التي جاء إليها ليحياها لا ليزهد بها، ليتنافس فيها من أجل الأفضل لا ليتركها أو يقتل فيها، فكانت حياتنا دائماً كمن دفعته الأمنيات إلى صنع لوحة لبيت غير موجود، وإن كان هذا قد تحقق لأنه طبيعة الحياة الفردية، فإن الأمور المجتمعية ليست خاضعة للأمر نفسه.

التعليم في مدخلات صحيحة يعطي مخرجات صحيحة، أما القياس والتقويم لمخرجات تعليمية هشة وغير واضحة وغير صحيحة تعطينا نتائج غير صحيحة، وربما نغير فيها حتى لا يصدمنا الواقع.

القواعد الصحيحة في التعريب وتعريب التعليم تعطينا نتائج مهمة للغاية، وتعطينا من البحث عن عبارات إنشائية لمدح ما لا يستحق المدح من الممكن أن تطلب لوحة لبيت، لكن بعد أن تكون قد وضعت أساساته وصار واقعاً، وتصورك عن كل شيء صار واضحاً، ليكون كل شيء متناغماً وسليماً وصحيحاً، وإلا اضطررت أن تضع لوحة فاخرة على بيت من الصفيح، فتضيع الجمالية ويتألم الفنان الذي صاغ هذه اللوحة ذات يوم، الرؤية هي الأكثر أهمية في حياتنا الفردية والجمعية على حد سواء.

لابد من البدء بأي عمل بالترتيب للوصول إلى الخواتيم المنطقية، وعندما يتجاوزنا الزمن في أمر ما، فردي أو جماعي، علينا أن نعمل أكثر، وعلى أكثر من محور لحرق المراحل وتجاوز ما وقعنا فيه…!

وإلا سترافق اللوحة النحاسية الراحل لتكون على شاهدة قبر حتمي، لأنه لا يمكن أن يترك فوق الأرض تخلصاً منه ومن تبعاته، هناك توضع لوحة تدل على إنسان فرّط في التنافس في الحياة، ولم يحمل شيئاً لما يعتقده!

حكاية لوحة نحاسية ضاعت في الانتظار والترقب، فما كانت الحياة سوى رحلة من ملل وترقب، والفاعل محذوف وجوباً. إنه العالم الحالم المتغير، حين يظن أحدنا أن الأمر بعيد، ثم لا يلبث أن يصبح الحلم حقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن