في عالمٍ مجنون تضربهُ العواصفَ المطرية صيفاً وتحتجب عنه خيرات الشتاء في موسمها، باتَ من الطبيعي أن ترى ما يوازيها من عواصفَ عسكرية وسياسية كان آخرها الحديث عن تشكيلِ تحالفٍ من دول هذا الشرق على هيئةِ «ناتو»، ولأن الفكرة لاقت صدىً واسعاً في التحليلات لابد من معالجةِ بعض النقاط المهمة لكي تتضح لنا حقيقةَ الدعوة والأهم أين الجمهورية العربية السورية من كل ذلك؟
أولاً: يخطئ البعض عندما يأخذ ولو من باب التوصيف بأن هذا الحلف هو عبارة عن «ناتو سني»، هذا التوصيف فيهِ الكثير من المغالطات التي يروج لها عن قصد أو من دون قصد من يقف معهُ أو من يعارضه، فالطرف الأول يرى بأن تعويم المذهبية هي سلاح فعَّال ومُجرَّب ويستحق المغامرة لكونهِ الوحيد القادر على استجلاب التعاطف الأعمى عبرَ العالم، أما الطرف الثاني فهو عاجز عن الإجابة عن السؤال التالي: إذا كان الحلف سنياً فضدَّ من؟ هل المقصود بأنه ضد إيران الشيعية؟ هكذا توصيفات تتعدى فكرة المغالطة عندما نختصر كل هذا الصراع الجاري في المنطقة بمذهبية هذه الدولة أو تلك، فلا دول الناتو المزعوم تختصر المذهب السني ولا إيران تختصر المذهب الشيعي في هذا العالم مهما حاولت الماكينة الإعلامية لكلا الطرفين الترويج لذلك، دون أن ننسى فكرة أن ربط مفهوم المقاومة بمذهب هي إساءة للمقاومة أياً كان هذا المذهب، فليسَ كل من يعتنق روح المقاومة للهيمنة الأميركية قد يرى إيران هي طوق نجاة.
بالسياق ذاته علينا ألا ننسى فكرة أن إيران أساساً كدولة بمعزل عن المذهب الذي تتبناه، تتمتع بعلاقات أكثر من ممتازة مع كل هذه الدول، إذن لماذا يتم التسويق للمذهبية عندما يعلو صوت التحريض، فيما يتجاهل الجميع المذهبية عند توقيع اتفاقيات التعاون التجاري؟! هل يعلم من يروج لهكذا تحريض بأن هناك سعياً إيرانياً تركياً مثلاً ليصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى ثلاثين مليار دولار؟!
ثانياً: عود على بدء في فكرةِ الصراع بين «الشعار» والقدرة على التطبيق، بين المصطلحات الجامدة غير القابلة للتعديل ضمن سياق هذا العالم المتغير وإلزامية النظر بموضوعية لكل هذه المتغيرات، ولعل على رأس هذه المصطلحات يأتي مفهوم «الأمن القومي العربي»، ومن علائم الجمود في التوصيفات إصرار البعض على عدم موت هذا المصطلح منذُ دخول القوات العراقية دولة الكويت، منذ هذا التاريخ حتى الآن لم يتبقَّ من هذا المصطلح إلا بضعةِ شعاراتٍ مرتبطة بهِ اليوم، ونبدو فعلياً أمام خيارين في آلية فهم الأمن القومي العربي:
الخيار الأول يقدِّم صيغة جديدة لفكرة الأمن القومي العربي، تنطلق من نظرية أن السلام مع إسرائيل وحدهُ ما يصنع الأمن والاستقرار، لم تأتِ هذه الفكرة من فراغ إذ إن أصحابها يدافعون عنها من عدةِ أوجه أهمها البحث عن رفاهية الشعوب التي تعبت من الحروب، وتحديداً أن الدول التي لم يضربها الربيع العربي ترى بنفسها وقد تمكنت من تجاوز العقبة الأصعب وهي قادرة اليوم على الانطلاق نحو المستقبل برؤى أوضح تعتمد على أفكار أساسية أهمها احتواء كل الدول التي تسبب ضرراً للأمن القومي العربي، فالكيان الصهيوني عملياً سيخرج من معادلة الصراع، والنظام التركي الغارق بمشاكله الداخلية يبدو كذلك الأمر سيخرج من حدود الوهم باستعادة إمبراطورية الإجرام العثمانية، يبقى الخطر الأهم بالنسبةِ لهم هو الخطر الإيراني، لكن حتى هذا الخطر سيصبح تحصيلَ حاصلٍ إن نجحت إيران والولايات المتحدة بتذليل الصعوبات لعقد الاتفاق النووي.
الخيار الثاني: وهو الخيار التقليدي الذي وإن كان يستند إلى مضامينَ صادقة وحقيقية أهمها طرح القضية المركزية كجوهر للصراع والأساس في فهمِ فرضية الأمن القومي العربي الموجه لحماية العرب من الكيان الصهيوني، إلا أنه حتى الآن لم يقدِّم البدائل التي تُحاكي المتغيرات، حتى نظرته لفشل الدول التي نزعت نحو السلم بتحقيق الرفاهية المطلوبة لشعوبها قد يرجع إلى إخفاق بالمنظومة الداخلية لهذهِ الدول وليسَ فشلاً بما ما قد يصنعه السلام، ولكيلا نظلم هذا الخيار علينا الاعتراف بأنه كان يعمل على عدةِ جبهات بل إن محاولة عزله بالأساس كانت هدفاً للمدافعين عن الخيار الأول من دون أن ننسى فكرةَ الدخلاء الذين تغلغلوا في الأمن القومي العربي بشعاراتٍ شتى لكنهم في النهاية قد لا يفرقون كثيراً في الطموحات بعيدة المدى عن غيرهم.
سقط مفهوم الأمن القومي العربي ولن يعود إلا ببدائل تحاكي الواقع تحديداً عندما اختصرنا الخطر على هذا المفهوم بذاك القادم من فلسطين المحتلة، إذن نحن في صراعٍ على التوجهات، لنكف الحديث عن الصراع المذهبي مع كل شاردةٍ وواردة لأننا ببساطة نعطي لمن يريد السيطرة على المنطقة انتصاراتٍ مجانية! هو ليس صراعاً بين مذهبين هو صراع بين توجهين الأول يرى أن المنطقة والعالم تتبدل ولا بد للمنطقة العربية أن تحجز مكاناً لها في عالم ما بعدَ انتهاء القطبية، والثاني يرى أنه لا يزال هناك إمكانية عملياً للاستثمار بالشعارات المتعلقة بمبدأ المقاومة حتى آخر نفس باعتبارها تجسيد لمصالح أصحاب الحقوق، من دون أن ننسى أن أصحاب الحقوق أساساً هم جزء من القبول بدولةِ إسرائيل.
ثالثاً: عندما تريد بناء تحالفٍ ما عليك فعلياً أن تبنيه في الأُطر التي تضمن لك القوة، فكرة الناتو كأحد أوجه تجسيد القطبية في العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لا يمكن لها أن تكون ناجحة اليوم في منطقتنا العربية، هناك من يطرح تساؤلاً: ما هذا الناتو الذي يتم الإعلان عنه من الأردن؟ ما هو الدور الوظيفي للأردن لكي يكون له هذا الثقل وهو بلد يعيش على المساعدات؟
لعلَّ الإجابة عن هذا السؤال تختصر كل هذا الجدال، إذ لا يخفى على أحد أن الحديث عن تشكيل هذا التحالف ليسَ بجديد، بل إنه طُرحَ علناً خلال الزيارة الشهيرة التي قامَ بها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية، يومها كان ترامب بمساعدةِ ابنته ايفانكا وصهره جاريد كوشنير كمن يؤسس للسنوات الأربع القادمة التي ستحمله إليها صناديق الاقتراع لولايةٍ ثانية، ترامب الرافض لكل أشكال التلاقي مع إيران كان فعلياً يرغب بتحالف قوي يحارب إيران من مبدأ أن الولايات المتحدة لا تريد أن تحارب عن الآخرين، يومها تلاشت فكرة إنشاء هذا التحالف مع سقوط دونالد ترامب في الانتخابات وأصبح وجود هذه الفكرة ليس ضرورياً لكون الإدارة الديمقراطية الحالية في البيت الأبيض ترى إيران صديقاً يمكن التلاقي معه في الكثير من النقاط، ولا يمكن لها حتى التفكير بمجرد الدفع للحرب في المنطقة أياً كانت المسوغات.
بالسياق ذاته فإن كل ما قيلَ وما كُتب من تحليلات عن هذه الفكرة منذ عرض المقطع المجتزأ لحديث الملك الأردني تجاهل نقطة جوهرية وهي أن الملك قال بصراحةٍ إننا «سندعم إنشاء»، «سنكون أول من ينضم في حال الإنشاء» عملياً الجميع يحلِّل افتراضات ساقها الملك في كلامه، هذه الافتراضات قد لا تتعدى فكرة الأمنيات، تحديداً أن الأردن يعيش دائماً كابوس «الوطن البديل» للفلسطينيين في إطار التسوية الشاملة وهذا ما قاله علناً مسؤولون رسميون في القيادة الصهيونية، ولعل تركيز العاهل الأردني على فكرة أن يكون البيان الخاص بإنشاء هكذا تكتل واضحاً لا يحتمل التأويل وهو دليل فعلي بأن كل ما يجري من أحاديث هي مجرد أمنيات!
في الخلاصة: رمى الملك الأردني حقيبة أمنياته في سوق التصريحات السياسية، لكن المسافة لا تزال شاسعة بين الواقع والأمنيات، إن ولادة هكذا تحالفات قد تكون ممكنة لكن في حال تم التوصل لاتفاقيات على مستوى المنطقة، وهنا يمكننا القول إن ألف باء النجاح لهكذا تحالف هو الوضع في سورية، تحديداً بما يتعلق بشقي الحرب عليها تحت شعارات واهية أو مستقبل عملية السلام مع الكيان الصهيوني، عدا عن ذلك ستبقى المنطقة تدور في الوهم بين من يأخذها نحو المذهبية ويرمي بها نحو التحريض، ليس هناك من ناتو عربي ولا شرق أوسطي لكن الجميع فيما يبدو مستفيد من ارتفاع حدة التحريض، الفوضى هي سوق النخاسة الذي يستفيد منه الجميع والخاسر الوحيد هي شعوب هذا الشرق البائس.. للأسف!