كان يوم الـ30 من أيلول 2015 انعطافاً في مسار الأزمة السورية البادئة قبل نحو 54 شهراً من هذا التاريخ الأخير، حيث ستكمن المفاعيل الأهم للتدخل العسكري الروسي في تحييد المحاور الإقليمية التي راحت تجهد في كل الاتجاهات، السياسية والدبلوماسية والعسكرية، باتجاه إحداث تطور دراماتيكي في سورية يقود بالنتيجة إلى قلب التوازنات الإقليمية رأساً على عقب، واللافت هو أن تلك المحاور كانت في جلها ذات طابع مرحلي، أو مؤقت، بمعنى أنها كانت نتاجاً للتداخل، أو التضارب، في المصالح تحت إطار «المشغل» الدولي المتمركز، آنذاك، في عواصم أربع هي: واشنطن، موسكو، باريس، لندن، وعلى سبيل الذكر، لا الحصر، مثّل التلاقي السعودي- التركي مطلع آذار 2015 تهديداً حقيقياً للكينونة السورية كان يمكن أن تكون له تداعيات أكبر بكثير من تلك التي شهدها لاعتبارات عدة، لكن انفراط عقده سريعاً لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بالتضارب الحتمي بين الدورين السعودي والتركي، كان كفيلاً بالوقوف عند خروج إدلب عن السيادة السورية أواخر هذا الشهر الأخير الذي شهد أيضاً بدء العدوان السعودي على اليمن، وكلا الأمرين، أي العدوان على اليمن وانفراط التحالف السعودي – التركي، مترابطان بدرجة أن أحدهما قاد إلى الآخر والعكس صحيح أيضاً.
من حيث النتيجة شكلت «عاصفة السوخوي» البادئة في التاريخ الوارد أعلاه، كنساً للمحاور الإقليمية، كنتيجة طبيعية فرضتها القوة العسكرية التي كانت لها حمولاتها التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وكذا فرضتها التفاهمات الروسية – الأميركية الحاصلة آنذاك تجاه الملف السوري والتي حصلت تلك «العاصفة» تحت ظلالها، الأمر الذي سرعان ما أعطى ثماره التي كان منها عودة حلب إلى السيادة السورية أواخر العام 2016، ثم تلاها بعد عامين عودة الغوطة ومعها الجنوب السوري إلى تلك السيادة أيضاً، ثم راحت التطورات الحاصلة فيما بعد هذين الحدثين تراكم عودة العديد من المناطق بطرق شتى وهي تتراوح ما بين العمليات العسكرية المحدودة التي كانت مرهونة بظروف معينة، وبين التسويات التي تعددت حتى شكلت ظاهرة يمكن الرهان عليها كبديل عن الأولى التي راحت تتقلص فرصها جراء التعقيدات الحاصلة بفعل توافقات في مسارات عدة من نوع «أستانا» و«سوتشي»، ثم بفعل تفاهمات حصلت بالتأكيد وإن لم يكن قد أعلن عنها، مما يمكن لحظه عبر الظلال التي راحت التحركات ترسمها على الأرض.
كان يوم الـ24 من شباط الماضي، الذي شهد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تحولياً أيضاً في مسار الأزمة السورية بفعل التداعيات الثقيلة التي راحت ترسمها التطورات الميدانية والتي فرضت بالضرورة انعكاسات لها على امتداد العالم الذي بات مشطوراً على وقع ذلك الصراع الذي تشير كل التقديرات إلى أن النتائج التي سيفضي إليها ستكون مفصلية لجهة ولادة توازنات دولية جديدة، بل ولربما ولادة نظام دولي جديد، وإن كانت تباشير هذا الأخير لا تبين في الأفق الآن، لكن أهم تلك الانعكاسات، بالنسبة إلينا، كان في الافتراقات الحاصلة ما بين موسكو وواشنطن على الساحة السورية الأمر الذي أتاح، ولسوف يتيح لاحقاً أكثر، عودة المحاور الإقليمية التي تلاشت آمالها حتى غابت في المرحلة الممتدة ما بين خريف العام 2015 وربيع العام 2022.
تمثل بالزيارة التي قام بها ولي العهد السعودي إلى أنقرة مؤخراً المحطة الأبرز في سياق الجولة التي قام بها، وشملت كلاً من القاهرة وعمان، والأهمية هنا تتأتى بالدرجة الأولى من التضارب الموضوعي ما بين الدورين السعودي والتركي، ولذا فإن التلاقي غالباً ما يشير إلى ظرف مرحلي حاكم، أو يشير إلى أنه، أي التلاقي، جاء كمقدمة لتقاطعات نفعية فرضتها ظروف مرحلية هي الأخرى، صحيح أن الزيارة جاءت في سياق وضع اقتصادي مأزوم وجد الرئيس التركي مصيره فيه قد يحسم في حزيران من العام المقبل، وأنه اضطر صاغراً للقاء محمد بن سلمان طلباً لثلاثة مليارات من الدولارات، هي حجم التبادل بين الطرفين قبل العام 2018، كان قد فقدها في أعقاب التوتر الحاصل على خلفية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي على الأراضي التركية، وصحيح أيضاً أن ولي العهد السعودي يجد نفسه في لحظة «مشروعية» حرجة لجهة وصوله «الآمن» للعرش من دون حدوث تداعيات خطرة على الكيان السعودي، لكن الصحيح أيضاً هو أن التلاقي الأساس جاء في سياق تنسيق التموضع الجديد الذي يجب أن يتخذه الطرفان عشية الزيارة المرتقبة التي سيجريها الرئيس الأميركي للرياض منتصف شهر تموز المقبل.
تشير المعطيات التي يمكن استقراء النتائج التي ستخلص إليها زيارة بايدن للرياض آنفة الذكر إلى أنها ستفضي إلى تشكيل جبهة عربية – إسرائيلية لمواجهة إيران، والراجح هو أن ذلك الفعل، فيما لو حصل، فإنه سيكون مرحلياً أيضاً، بمعنى أن السياسة الأميركية في هذا الاتجاه هي «تكتيكية» ترمي إلى تطبيق أقصى الضغوط على طهران بغية دفع الأخيرة لتقديم تنازلات وازنة كفيلة بخروج «الدخان الأبيض» من فيينا معلناً العودة للاتفاق النووي الإيراني 2015، وما يجعلنا نعتقد بأن هذا الخيار الأميركي هو من هذا النوع هو أن حالة الاحتياج الأميركي للثقل الإيراني هي أكبر بكثير منها للثقل الذي تمثله الدول المنضوية تحت راية تلك «الجبهة» المزعومة، حتى إذا أتى المسعى أكله، كان لزاما دخول هذه الأخيرة مرحلة التلاشي والتهميش.
لكن إلى أن تنضج ظروف ذلك السيناريو، والتي قد تطول، يبدو أن العديد من اللاعبين يشدهم «الحنين» لاستعادة المناخات التي سادت ما بين عامي 2013 و2015، والتي كانت لهم اليد الطولى فيها لجهة زعزعة الاستقرار السوري كمقدمة لا بديل عنها لقيام توازنات جديدة يأمل الجميع، وكل حسب تصوراته، إلى أن تكون من النوع الخادم لمشاريعه التي تتراوح هنا ما بين الشخصية وتلك الخادمة للأنظمة، مع تسجيل نقطة مهمة هنا على الضفاف العربية وهي تتمثل في تلاشي الحسابات التي تندرج في إطار النظرة إلى «النظام الإقليمي العربي» هذا إذا كانت تلك الحسابات واردة أصلاً في سياق صناعة القرار السياسي لدى هؤلاء.