يحيى عمايري يقدم فلسفة الحكم العطائية … انحياز للجبرية ومنافاة حرية الإرادة الإنسانية … الجانب الفلسفي والكلامي والمنطقي لمتصوف إسلامي أقرب للاستدلال العقلي
| إسماعيل مروة
التصوف، الكلام، الفلسفة، الجدل، تعابير أخرى أيضاً كانت تعبيراً مناسباً في تراثنا العربي والنقدي عن حالة الحراك الفكري الذي كان، والذي يحصل في ثقافتنا، تارة للتعبير عن الفلسفة العربية، وتارة للتهرب من تعبير الفلسفة وسماتها المعروفة لديهم، وربما كان هذا الكلام تعبيراً عن حالة فكرية واعية ترى أن الأبعاد الفلسفية التامة والناضجة لم تجد طريقها إلى تراثنا لأسباب دينية وعقيدية، خاصة أن الغالبية العظمى من الذين تحدثوا في الفلسفة والكلام ينضوون تحت عباءة الفكر الديني، ما جعل الفكر الفلسفي الإسلامي لا يتعدى أن يكون محاولات تفسيرية للمفهوم الديني الإسلامي، ومن هؤلاء ابن عطاء الله السكندري، صاحب «الحكم العطائية» وقد أخلص أستاذنا يحيى عمايري أستاذ الفلسفة لقراءة الجانب الفلسفي والكلامي عنده في دراسة صدرت عن دار كنعان منذ أيام قليلة.
ابن عطاء والكشف
عُرف ابن عطاء الله السكندري بحكمه العطائية، هذه الحكم التي يتم تدريسها في حلقات التعليم الديني حتى ذاع صيتها، وتناوب على شرحها عدد كبير من الشرّاح قديماً وحديثاً، ولكن أغلب الذين تصدوا لشرح الحكم العطائية هم من علماء الدين والفقهاء لذلك انتهجوا منهج الفقه لتعزيز مكانة ابن عطاء الفقهية والصوفية، وله شروح عدة في سورية، لكن ما عمل عليه أستاذنا يحيى عمايري أستاذ الفلسفة المتعمق هو الكشف عن الجوانب الأكثر أهمية عند ابن عطاء، والمتعلقة بالعقل والفلسفة والفكر بين ما كانه ابن عطاء وما صار إليه!! كان عازفاً عن التصوف ناقداً له، إذ به يتحول ليصبح صوفياً واصلاً، وإليه يعود الفضل في حفظ الطريقة الشاذلية، وتطويرها وتقديمها بطريقة لاقت قبولاً وانتشاراً عند مسلمي مصر والعالم الإسلامي».
وهذا النقل يشير إلى مجموعة من القضايا في الفكر الصوفي وابن عطاء:
1- ابن عطاء لم يكن في البداية صوفياً، وإنما كان بعيداً وناقداً..
2- الفكر الصوفي وطرائقه، لم يكن مستساغاً وقت ابن عطاء من المجتمع.
3- ا لفكر الصوفي وطرائقه لم يكن مقنناً وقريباً من العامة والعلماء.
4- دخول ابن عطاء في الصوفية حفظ الطريقة الشاذلية، وقرّب الصوفية للناس.
ذلك أن ابن عطاء بتفكيره المغاير للصوفية في البداية ثم وصوله إلى العرفان في التصوف قدّم فوائد عظيمة للتصوف، وربما كان هذا ما دفع إلى الاهتمام به وبحكمة العطانية.
النقطة الفاصلة عنده
كما تعودنا في فكرنا العربي والمشرقي خاصة فإن نظرتنا ونقدنا يتركز في الشخصية في مرحلة التحول، أو ما بعد التحول، وذلك بما يناسب رأينا وتوجهنا. وهذا ما كان من حال مع ابن عطاء وحكمه إذ ذاع صيته بالحكم والتصوف، وهنا يقف الأستاذ عمايري ناقداً ومحاوراً للدخول في جوهر الحكم «تم تقديم ابن عطاء في الأوساط الدينية والثقافية كمتصوف شغف قلبه بالاتصال بأنوار الأَحَدية.. ولكي نعطي المسألة وضوحاً أكثر فإن ابن عطاء الله لم يكن صوفياً خالصاً بل نراه قد جمع مع التصوف الميل إلى علم الكلام، وذلك من خلال توخيه البحث عن الذات الإلهية والوجود الإلهي وأسماء الله الحسنى، وكذلك من خلال معالجته العديد من القضايا الكلامية كمشكلة الجبر والاختيار وحرية الإرادة الإنسانية»ز
فنحن هنا أمام قراءة فكرية فلسفية تقرأ الواقع الصوفي الذي أخذه ابن عطاء الله لكنها في الوقت نفسه تقف عند خلفيته الفكرية ذات النزوع الكلامي الفلسفي ولأن الكاتب من أساتذة الفلسفة الكبار، فإنه استطاع أن يستخلص الرؤى الكلامية والفلسفية، وأن يردّها إلى أصولها، وأن يوازنها مع الفلسفة عامة ليصل إلى فهم أعمق حتى لفكرة التصوف عند ابن عطاء الله، هذه الفكرة التي لا تقوم على العرفان والتماهي وحده، بل ترتكز إلى معرفة كلامية وفلسفية عنده.
الربط بين الصوفية والفلسفة
جاء الكتاب على ثلاثة فصول أولها حدود المعرفة تناول أداتي المعرفة، العقل والقلب ومفهومهما في الفلسفة اليونانية وعند مفكري الإسلام، تم خصّ المتصوفة ونظرتهم إلى المعرفة وحدودها.
ثانيها حمل عنوان الألوهية ودلالاتها من خلال وجود الله والبراهين على الوجود في الحكم وهتك الأستار، ثم قضية الوحدانية، والذات الإلهية وناقش آراء المسلمين عامة والمتكلمين والمتصوفة.
ثالثها عرض للإرادة الإنسانية، فتناول مسألة التدبير سيكولوجياً، ومفهوم الرزق ومجاهدة النفس، وصولاً إلى التكليف والفاعلية، ليختم بالحرية والجبرية ورأي الصوفية، وموقف ابن عطاء الله من الجبر والاختيار، وهو الذي يجمع ما بين الكلاميين والصوفيين في فكره وعقله.
وفي هذه الفصول جمع المؤلف الخبير مجموعة من القضايا بحكمة بالغة، فهو لم ينطلق من أمر معاداة لشيء أو حب لشيء ويريد الدفاع أو الهجوم على أمر ما أو لصالحه، وإنما دفعته المعرفة، وهذا البحث على وعورة موضوعاته إلا أن المؤلف استطاع أن يجمع ما تفرّق، وأن يبرز القضايا الخلافية الجوهرية في مسائل محل خلاف بين المفكرين والعلماء والفلاسفة، ويظن كثير من المثقفين أن الأمور محسومة وهي في الحقيقة ليست كذلك، والأستاذ عمايري يستقرئ الكتب والآراء ليظهر لنا جلياً أن مسائل الفكر الديني والإنساني خضعت للكلام والجدل والتأويل، وكل عالم يناقشها من وجهة نظره وبالنتيجة، لم توضع رواسم حقيقية للوجود الإنساني والعلاقة التي تربط الحياة بالخالق، وظهر ذلك واضحاً بين المتكلمين والمتصوفة وربما كان هذا سبباً أساسياً في قراءة الحكم العطائية من وجهة نظر دينية فقهية صوفية، وإهمال الجانب الكلامي الفلسفي الذي كان منطلق ابن عطاء الله الفكري.
نموذج ونتائج
تدور أحاديث كثيرة حول المعرفة والوحدانية والجبر والاختيار في الحياة، ويظن كثيرون أن الأمور واضحة ومحسومة، ولكن الكتاب يكشف عن عمق هذا الخلاف بين التيارات الفكرية التي تصل حدّ التكفير والرفض، وقد حدثت محن في التاريخ الإسلامي بناء على هذه الخلافات، واليوم تحولت هذه المحن من صراع بين صفوة العلماء إلى صراع بين العامة، فأحدثت شروخاً اجتماعية وعقيدية ومذهبية تصعب معالجتها، ومن هذه النقاشات أختار نموذجاً مختصراً لمسألة الجبر والاختيار ومعالجتها بين المتكلمين والمتصوفة، ورأي ابن عطاء الله المنحاز على الرغم من منطلقه الكلامي.
«موقف مع الاختيار، وموقف مع الجبر، أما القائلون بحرية الإرادة والاختيار فقد انطلقوا من تحليل معنى العدل، فالإنسان خلق أفعاله بنفسه، وأن بإمكانه أن يفعل الشيء وألا يفعله، فإذا فعل بإرادته وترك بإرادته كانت مثوبته أو عقوبته عادلة، فليس من العدالة في شيء أن يجبر الله الإنسان على الفعل ثم يثيبه أو يعاقبه.. أما القائلون بالجبر ومنهم ابن عطاء الله يقول إن أفعال الإنسان خيرها وشرها مخلوقة لله، وهذا موقف ناتج عن إيمانه التام بالقدر، وبوجود خالق واحد خلق الأشياء ودبرها منذ الأزل بمقتضى علمه وهو الله وهذا الخالق مطلق الإرادة والاختيار.
هكذا ينقل المؤلف عما يري بأمانة آراء المتكلمين والمتصوفين في مسائل ليست عادية، وإنما تتحكم بحياتنا، وهذه المعضلة الوجودية ما تزال موجودة في حياتنا، بل تتحكم في كل فاصلة، وربما كانت وراء الكثير من دعوات التكفير والقتل، والمؤلف وقف عندها ليظهر الانقلاب الفكري الذي حصل عند ابن عطاء الله سواء كان جذرياً أم الأخذ من المتكلمين بما يلائم، وعن المتصوفة بما يجاري الثقافة السائدة، وخاصة مع تركيزه على عدم اعتماد ابن عطاء الله على أي نوع من المزاوجة بين ما يراه المتكلمون والمعتزلة، وما يراه الأشاعرة والمتصوفة، وهذا التطرف في الرأي زاد المسافة بين الآراء التي كانت مجرد آراء لتصبح وكأنها مذهب أو اعتقاد!
والخطة العلمية جعلت المؤلف يحدد نتائجه، ولن نقف عندها لأنها تحتاج إلى قراءة متأنية، ولكن نشير إلى أهم ما أراه من مأخذ على ابن عطاء وقف عنده المؤلف:
«إسقاط التدبير والإرادة، فهل من شأن التخطيط للمستقبل تصحيحاً وتنفيذاً بعد تقليب الأمر على وجوهه المختلفة واتخاذ القرار المناسب منازعة للمقادير؟.. وكذلك أخذه بالجبرية المطلقة، فهل يفعل الإنسان الشر مجبراً أم له قوة الإرادة الحرة في مقاومة الشر؟ ونزع الشيطان؟
وما معنى مسؤولية الإنسان عن أفعاله؟ خيراً أم شراً؟ ولماذا كان الثواب والعقاب؟ وما معنى التكليف؟ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ كما تقتضي العدالة الإلهية».
كتاب (البعد الكلامي في تصوف ابن عطاء الله السكندري، كتاب في غاية الأهمية والقيمة كباحث أنجزه في الثانية والثمانين من العمر، وقد أفنى عمره في الفكر والفلسفة.. بعد واحد وأربعين عاماً على تتلمذي بين يديه أقرأ أستاذي يحيى عما يري مختمراً معللاً لطريق مشاها بوعي ومعرفة وإيمان وفلسفة.