كان تأجيل الزيارة، لمدة شهر على الأقل، التي ينوي الرئيس الأميركي جو بايدين القيام بها للمملكة السعودية يشير إلى نوع من الارتباك الأميركي في العلاقة القائمة مع الرياض، والفعل ناجم عن معطيات عدة أبرزها أن قوى أميركية داخلية وازنة راحت تضغط باتجاه العمل على زيادة عمليات التنقيب بحثاً عن النفط بدلاً من «استجداء» الآخرين الذين يقصد بهم هنا السعوديين كأكبر منتج ومصدر للنفط في العالم، والضغط إياه كان قد تزايد وقعه، وتزايدت مشروعيته، في أعقاب امتناع المملكة عن الانصياع للإملاءات الأميركية القاضية بوجوب ضخ كميات زائدة من النفط لتغطية الفاقد الروسي ما بعد 24 شباط الماضي، والذي راحت موسكو تستثمر فيه لتحقيق مكاسب كانت في مجملها عالية الحصيلة، ومنها أن جهات، لا تقل وزناً عن الأولى ولربما كانت من قماشتها نفسها، ترى أن الزيارة ستشكل مظلة أميركية من شأنها تعبيد الطريق أمام ولي العهد محمد بن سلمان ليحمل بعدها الرقم 8 من بين ملوك المملكة التي أعلن جده عن تأسيسها العام 1932، والفعل، أي تعبيد الطريق، لا تزال هناك جهات داخلية أميركية، على رأسها الـ«واشنطن بوست» الناطقة باسم تكتلات ومصالح وازنة، تعارضه على خلفية الاتهام الموجه لهذا الأخير بالوقوف وراء مقتل الصحفي جمال خاشقجي الذي جرى في القنصلية السعودية في إسطنبول خريف العام 2018.
بإعلان الديوان الملكي السعودي 14 حزيران الجاري عن تحديد موعد الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الأميركي للمملكة يومي 15 و16 من شهر تموز المقبل، يكون موضوع حدوثها قد انتهى، ما لم يحدث في غضون الأيام المتبقية طارئ يعيد كل الحسابات، وحتى لو حدث فإن الزيارة ستحدث حتماً في موعد لاحق طالما أن التردد الذي كان يبديه بايدن تجاه الفعل قد حسم، وربما يصح القول إن هذا الأخير كان كمن يبتلع المرار وهو يحسم أمره لأن الفعل النقيض كان سيقود حتماً إلى ابتلاع مرار أكبر، فالزيادة المضطردة في أسعار النفط كانت لها تداعيات كبرى على الاقتصاد الأميركي، والاقتصادات التي تدور في فلكه، في الوقت الذي تشير فيه تقارير إلى أن الحال إذا ما استمر وفق هذه الوتيرة فإن تلك الاقتصادات ستكون على موعد مع «الانكماش» الذي قد يقود بدوره إلى حال من الركود، بل إن خبراء اقتصاديين أميركيين كانوا قد تنبؤوا أن الولايات المتحدة، إذا ما تفاقمت أزمة الطاقة الراهنة، ستكون في نهاية العام الحالي على موعد مع أزمة اقتصادية غير مسبوقة منذ العام 1929 الذي تذكر أزمته تحت عنوان «انهيار الرأسمالية»، والأهم هنا هو أن تلك الأزمة كانت قد هيأت الأرضية الاقتصادية لنشوب الحرب العالمية الثانية بعد مرور عشر سنوات على قيامها، ثم إن هناك الملف الإيراني الذي يهدد بالخروج عن كل السياقات التي أريد له أن ينضبط فيها عبر اتفاق فيينا 2015، والحساب سابق الذكر بات أمرا يجب أن يندرج في طريقة التعاطي مع ذلك الملف على خلفية التعثر الحاصل في المفاوضات التي أطلقت منذ وصول بايدن للسلطة بغرض إحياء هذا الاتفاق الأخير، وبهذا السياق من الراجح أن الولايات المتحدة باتت تفكر في إقامة جبهة عربية – إسرائيلية في مواجهة طهران، وما يدعم الترجيح سابق الذكر هو أن زيارة بايدن للسعودية، سوف تتضمن لقاءه قادة دول مجلس التعاون الخليجي الست، وربما ينضم إليهم الرئيس المصري والملك الأردني، ناهيك أن بايدن سيكون قادما من الأراضي المحتلة التي سيلتقي فيها القادة الفلسطينيين والإسرائيليين، والفعل إذا ما حصل بصورته آنفة الذكر فإن واشنطن تكون ماضية باتجاه إيجاد نقطة توازن مع المعسكر الإيراني الأمر الذي ترى فيه إيجاباً على الحدين، فإما أن يقود هذا الفعل للضغط على طهران لتقديم تنازلات في مفاوضات فيينا تكون من النوع «المرضي» لواشنطن وتل أبيب على حد سواء، وإما يقود لاستفزاز طهران فتعلن انسحابها من تلك المفاوضات وفي حينها تكون جبهة المواجهة جاهزة.
من الراجح أن تل أبيب لعبت دوراً مهماً في حسم تردد بايدن والدفع نحو قيام الأخير بزيارة الرياض والتنازل لمحمد بن سلمان في مقابل بدء هذا الأخير باتباع خطوات من «التطبيع» العلنية، فالأسلوب الذي اتبعته المملكة منذ قيامها، وذهبت فيه نحو إبقاء قنوات الاتصال مع تل أبيب مفتوحة بشكل سري، لم يعد مقبولاً إسرائيلياً انطلاقاً من أن سباق التتابع العربي الذي بدأ قبل نحو نصف قرن، ثم تتالت جولاته على امتداد المرحلة الفاصلة بين البداية واليوم، سيظل مهدداً، بالنسبة لتل أبيب، بوقوع العصا إذا لم يمسك بها العدّاء السعودي عند الـ100 م الأخيرة التي تفصل عن خط النهاية، ثم إن الرياض تبقى الخيار الأهم لقيام موازن إقليمي لطهران فيما إذا سارت الأمور باتجاه التصعيد بوجه هذه الأخيرة، وربما يذهب التفكير الإسرائيلي، هنا في هذا السياق، إلى الدفع بالمملكة نحو امتلاك السلاح النووي، إذا ما امتلكته طهران، وهذا السيناريو سبق لواشنطن أن عملت عليه في حالات سابقة من نوع الدفع بباكستان للحاق بالهند بعد فترة من إعلان الأخيرة، منتصف التسعينيات من القرن الماضي، عن نفسها دولة نووية، والفعل يرسي في هذه الحالة توازنا إقليميا يريح القوى الكبرى إبان تعاطيها مع الملفات الإقليمية.
من المنتظر أن تكون لزيارة بايدن إلى الملكة السعودية نتائج مهمة على صعيد الملفات الساخنة التي تشهدها المنطقة، وإذا ما كان الأميركيون قد ذهبوا نحو «تثبيت» الهدنة في اليمن حتى مطلع شهر آب المقبل، الذي أقره «منتدى اليمن الدولي» الذي انعقد مؤخراً في ستوكهولم، فإن الفعل يرمي في بعده العسكري إلى إضعاف الدور الإيراني، وفي بعده السياسي يرمي إلى تظهير المملكة على أنها «النموذج العربي» المناقض لنظيره الإيراني الرامي لاستعادة أمجاد «الإمبراطورية الفارسية»، وهذا من حيث النتيجة سيكون ثقيلاً على الملف السوري الذي من المنتظر أن يشهد سخونة كلما ابتردت نظائره في الإقليم.