لم يكن من قبيل المصادفة أن يشهد النظام الإقليمي تسارعاً في وتيرة الزيارات الدبلوماسية بشكل مكوكي ومكثف، في توقيت سياسي يعاني منه النظام الدولي مخاضاً عسيراً يجعله فوضوياً ويصعب تبيان أو اتضاح الآثار الناجمة عنه بشكل كامل وقطعي، ويؤكد في الوقت ذاته أنه لن يشهد انفراجة قريبة مما يدفع الفواعل السياسية للبحث عن آليات تتكيف من خلالها مع هذا المخاض وتقلل من آثاره السلبية.
لقد كان واضحاً أن هذه الزيارات المكوكية حصلت بين قوى شهدت صراعاً على المستويين الشخصي والرسمي، وتبادلت الاتهامات وسعى كل طرف إلى تغييب الطرف الآخر وتشويه سمعته وتحجيم دوره وإيجاد تحالفات من الدول لمنع توسع نفوذه.
بشكل تفصيلي كان لافتاً تلاقي المصالح التركية السعودية، والمصالح القطرية المصرية، إذ يسعى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من خلال زياراته لتركيا ومن ثم مصر والأردن، لإعادة مكانة السعودية ودورها ونفوذها في المشهد السياسي الدولي والإقليمي، بعد توتر العلاقات مع النظام التركي إثر تصفية الصحفي السعودي جمال خاشقجي والتدخل التركي في الصراع الخليجي عبر إرسالها لقوات عسكرية لحماية النظام القطري وفك الحصار المفروض عليه عام 2017، وهو ما انعكس على طبيعة الصراع بشكل زاد من حدته بين الدولتين أو المحورين في ساحات النزاع والأزمات الإقليمية.
إن صراع المحوريين التركي _السعودي شكلياً كان يحصل ضمن السياق السابق، إلا أن جوهره تجلى في مسارعة كل منهما للتربع على عرش النظام الإقليمي والتحكم في مساراته السياسية والدينية.
ومن النقاط اللافتة ضمن هذا الإطار أن زيارة ولي عهد النظام السعودي محمد بن سلمان لهذه الدول كانت نتيجة الأوضاع الداخلية المضطربة، فمن تركيا لمصر والأردن وصولاً للوضع السعودي، هذه الدول أجمعها تعاني من أوضاع سياسية واقتصادية داخلية غير مستقرة وتشهد اضطرابات من المؤكد أنها ستترك تأثيراتها في الاستقرار السياسي للأنظمة الحاكمة، لذلك في الجانب الأول يمكن القول إن هدف هذه الزيارة يتضمن دعم مسار المصالحة بين هذه الدول ولعب دور الوساطة فيما بينها نتيجة الحاجة المتأزمة داخلياً.
غير أن هدفها الأبرز يكمن في سعي السعودية لقطف اعتراف أميركي بجدوى دورها في المنطقة بعد استثنائها واعتباره ثانوياً مع وصول إدارة الديمقراطي جو بايدن للبيت الأبيض، فخطوات المصالحة بين تركيا والسعودية ومساعي ابن سلمان للعب دور المصالحة بين مصر وتركيا، والتغاضي عن المسائل الخلافية بين السعودية والأردن على إثر الدور الذي لعبه ابن سلمان في دعم الانقلاب ضد الملك الأردني العام الفائت، تزامناً مع كسر جمود العلاقات المصرية القطرية بعد زيارة الأمير القطري لمصر، جميعها نقاط تصب في اتجاه تخفيض مؤشرات التصعيد التي تعتري علاقات هذه الدول، بهدف إنجاح ائتلاف إقليمي وليس تحالفاً، وهو الائتلاف الذي سيلتقي الرئيس الأميركي جو بايدن عبر مؤتمر تحضر له الرياض في تموز القادم، بمعنى آخر أن محمد بن سلمان يسعى لاقتناص ظروف عدم الاستقرار الداخلية للدول الإقليمية والدولية لإنشاء ائتلاف يساهم في تحسن تموضعه السياسي في أثناء جولة بايدن للمنطقة منتصف الشهر القادم، وليضمن في الوقت ذاته انتقال السلطة إليه بشكل سلس ودون أي خلافات تقلل من شرعية تنصيبه ملكاً على عرش الحكم في القريب العاجل.
كما أن معظم هذه الدول من السعودية وتركيا ومصر، علاقاتها تشهد تراجعاً مع الولايات المتحدة وهي ترى أن ائتلافها في مؤتمر يحضر له في أثناء زيارة بايدن سيجعلها في موقع أفضل مما تكون علية منفردة في أي لقاء مع الإدارة الأميركية الحالية.
أياً كان عنوان هذه الزيارات واللقاءات الدبلوماسية من مصالحة وتطوير العلاقات الثنائية ونسيان ملفات الخلاف إلخ، إلا أن إمكانية تحوله لتحالف إقليمي في مواجهة إيران، هو صعب إن لم نقل مستحيل، ولكن قد يستخدم إعلامياً فقط للضغط على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ إن التحديات التي تحول دون إنشاء هذا التحالف في الواقع العملي عديدة، أبرزها:
_ بعض هذه الدول مثل تركيا وقطر هي في علاقات إيجابية ومتطورة مع إيران وليست من مصلحتها تحويل علاقاتها معها لعلاقات صراعية، وإن شهدت توتراً في بعض الملفات مثل الخلاف التركي الإيراني حول الملف السوري، كما أن هناك بعض الدول الخليجية مثل عمان لن تقبل بالانخراط ضمن تحالف يؤثر في وضعها الحيادي أو الوسطي.
_ اقتصاديات هذه الدول ليست في وضع صحي مناسب يدفعها لخوض صراع مع إيران، ولا تستطيع تحمل عقبات أي صراع يزيد من تردي واقعها الاقتصادي، ولاسيما أنها لم تنجح سابقاً ولا حتى حالياً في حسم عدوانها على اليمن منذ ما يقارب عقداً من الزمن.
_ ليس هناك إستراتيجية واضحة وثابتة للولايات المتحدة تؤكد استمرار وجودها في الشرق الأوسط، بل هناك ما يمكن وصفه بالخطط التكتيكة نتيجة تركيز إستراتيجيتها على مواجهة النفوذ الصيني واحتوائه، فضلاً عن صراعها مع روسيا في أوكرانيا، لذلك اهتمامها بالمنطقة يرتبط فقط بأمن إسرائيل وملف الطاقة.
مقابل ذلك، هناك مساعٍ عراقية عادت للواجهة مجدداً لدعم الحوار السعودي الإيراني، وهو ما تجلى في زيارة رئيس الحكومة العراقي للرياض وطهران بشكل متعاقب لتخفيض مؤشرات الاستفزاز في المنطقة بعد تصاعد مؤشرات المواجهة خلال الفترة الماضية بسبب السلوك الإسرائيلي والتصريحات غير المنضبطة والتي أوصلت المنطقة لحافة المواجهة المباشرة.
بناء على ما سبق، يمكن القول إن المنطقة ضمن مشروعين: الأول تصحيح العلاقات الثنائية بهدف إخضاع أميركا للاعتراف بدور وأهمية هذه الدول، ومشروع آخر هدفه البحث عن تخفيض مؤشرات الاستفزاز لكي لا تتدحرج المنطقة نحو تصعيد مازالت سيناريوهات حصوله قائمة.