ثقافة وفن

«فاطمة المرنيسي» الإرث الثقافي وجوهر الرسالة أخذت حقها في التعلّم فشرّعت ظاهرة الحريم … أظهرت أن النظرة الغربية للعرب ناقصة ومشوّهة

عامر فؤاد عامر :

أن يترك المرء أثراً ثقافيّاً؛ يغدو مع مرور الوقت إرثاً لنا وللأجيال القادمة، ذلك هو جوهر الرسالة الإنسانية. وهذا ما يتجلى في سيرة العالمة السوسيولوجيّة، والمفكرة، والباحثة، والكاتبة المغربيّة «فاطمة المرنيسي»، نصيرة المرأة العربيّة التي أغنت المكتبة المغربيّة والعالميّة بمؤلفات وأبحاث غاية في الأهمية، بقيت حتى اليوم وستبقى مرجعاً أساسياً للمرأة العربيّة والمغربيّة، من خلال تفردها في لغة البحث والمواضيع المهمّة التي تصدّرت كتبها ومؤلفاتها ومنها نذكر: «الحريم السياسي»، و«حكايات طفولة في الحريم»، و«هل أنتم محصنون ضدّ الحريم؟»، و«نساء سلطانات منسيات»، و«الجنس والإيديولوجيا والإسلام»، «ماوراء الحجاب»، و«شهرزاد ليست مغربية»، «شهرزاد ترحل إلى الغرب»، «الإسلام والديمقراطية – الخوف من الحداثة»، و«الحجاب والنخبة الذكوريّة»، وغيرها من المؤلفات المهمّة والقيّمة.

اعتراف عالمي
حازت جائزة أميرة أستورياس (Premios Príncipe de Asturias) الإسبانية في العام 2003 مناصفة مع «سوزان سونتاغ»، وهي أرفع وأهم جائزة تقدّم في إسبانيا وأهمّ الجوائز في أوروبا والعالم، تُمنح لأصحاب الإنجاز العلمي والمؤثرين في عمق مجتمعاتهم، وفي العام 2004 حصلت على جائزة «إراسموس» الهولنديّة التي كان محورها «الدين والحداثة» إلى جانب المفكر السوري «صادق جلال العظم» والإيراني «عبد الكريم سوروش». يذكر أن الكاتبة والباحثة والعالمة في علم الاجتماع «فاطمة المرنيسي» كانت قد صنّفتها صحيفة «ذي غارديان» البريطانيّة في العام 2012 كواحدة من المناضلات المئة الأكثر تأثيراً في العالم بمناسبة يوم المرأة العالمي.

هوّيتها العربيّة
ولدت فاطمة المرنيسي عام 1940 في أسرة محافظة في مدينة فاس المغربيّة، وعايشت في طفولتها ظاهرة «الحريم»، التي أثرت فيها كثيراً، وقد حالفها الحظ بأن أخذت حقها في التعليم من قبل دعم المدارس الحرّة التابعة للحركة الوطنيّة، فكان العلم طوق نجاتها من سجن التقاليد، وتابعت بعد ذلك تعليمها في مدينة الرباط، من ثم سافرت الى باريس لتكمل تعليمها، ومنها إلى أميركا فنالت شهادة الدكتوراه في العلوم الاجتماعيّة هناك، عائدة إلى المغرب للتدريس في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط مجدداً، ومضت في مسيرتها نحو التنوير في واقع المرأة العربيّة من خلال تجريدها، والبحث في أسباب القلق المغرق في التاريخ، والعودة للجذور طلباً للانعتاق في مستقبل المرأة العربيّة، وقد اهتمت في دراساتها بالعامل الاجتماعي والعامل الثقافي، اللذين أوصلا المرأة العربيّة، والمسلمة بالتحديد، لوضعها المتردي. وافتها المنيّة صباح يوم الإثنين 30 تشرين الثاني 2015 عن عمرٍ يناهز75 عاماً، وشيعت في موكب مهيب شارك فيه أبرز الشخصيّات في بلدها المملكة المغربيّة.

ميزة «المرنيسي» وتفردها
على الرغم من انحيازها في البحث والكتابة للمرأة، والدفاع عن قضاياها، إلا أنها لم تأخذ من الرجل دريئة لاتجاهاتها وأبحاثها، ولم تصنع من الذكورة عدواً لما تبحث فيه، بل كانت الباحثة الأكثر موازنة في الكلمة، والغاية، والعنوان، والحقيقة، والعودة للتاريخ، والتحقيق فيه، رغبةً في إيصال منعكس واضح لأبناء الجيل الحالي والقادم، لإيمانها بأن الإنسان لا يتجزأ في ثنائيته بل المرأة والرجل يشكلان جوهر وكينونة الحياة، فلا يمكن تغليب أحدهما على الآخر.
هل أنتم محصنون ضدّ الحريم؟
في كتابها «هل أنتم محصنون ضدّ الحريم؟» مضت «المرنيسي» في نقدها المجتمعي الذي طالت فيه مباشرة وصراحة المجتمع الغربي، والتسلّط ضدّ المرأة فيه، وعرّت فيه النظرة المزيفة تجاه المرأة لديه، وأبانت العيوب في هذه النظرة، والزيف المُصدّر للمجتمعات الأخرى، وسطحيّة العلاقة مع الأنثى، من خلال انتشار مفاهيم الرجل الغربي عن أنثاه، في الجمال، والأناقة، والتعلّق بقشور الموضة، والتجميل، وغيرها من الشكليات الأكثر سطحيّة، مبتعدين عن العمق في المفهوم الأنثوي الحقيقي، ومن جانب آخر أوضحت في كتابها هذا ضعف النظرة في المجتمع الغربي تجاه المرأة العربيّة، وحاولت إزالة الغشاوة في كثير من الأمثلة التي طرحتها، لتبيان وجود عناوين مختلفة عن التي وضعها الغرب تجاه العرب، والتي تتجسد في الجنس، والعبوديّة، والشهوة، وتفوق الرجولة الهشّة على الأنوثة.

الحريم السياسي
المرأة أسيرة التأويلات والتفسيرات الخاطئة للنصوص الدينيّة، والعيش ضمن أسوار التقاليد الهدّامة، هو عنوان عريض لكثير من الأبحاث التي جلدت نفسها «المرنيسي» في السهر على نشرها وتوضيحها، فكان أن بحثت في مفهوم الحريم في أكثر من مبحث، ومن مؤلفاتها في ذلك «الحريم السياسي»، والذي نذكره لدقة وجمال معلوماته، والذي تطرقت في جانبٍ منه لدور المرأة في عهد النبوّة، ولتراجعه التدريجي بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكلّ ذلك بتوثيق تاريخي وأبحاث عاليّة التوثيق والدّقة، لكنّها مخفيّة عن التناول وبعيدة عن أيدي الناس، غايةً في تكريس عادات لا يمكن إحراز إلا التخلف منها، والسير بأسلوب «المجتمع الأعرج» كما تصف.

نساء سلطانات
في كتاب «نساء سلطانات» مفاجأة من نوعٍ صادم، تقحمنا فيها الكاتبة بطريقة سلسة ومؤلمة، لنتبيّن أن الكثير من أسماء النساء في الحضارة ما قبل الإسلام وما بعده – مشهورات وغير مشهورات – كنّ على رأس السلطة والتفوّق في عالم السياسة والحكم، ولنستنتج من الكتاب أموراً كثيرة منها: إن الكثير من المؤلفات التاريخيّة تزخر بهذه الشواهد، لكن مناهجنا تغلق العين عنها وتتجاهلها! ولنتبيّن أيضاً حقائق غريبة منها: إن زهوة الحكم العباسي التي كانت في عهد الخليفة «هارون الرشيد» كانت بسبب حكمة والدته، وبعد الأفق الفكري لديها، وإتقانها للغة السياسة، وعدم ثني هذا الخليفة الأسطوري لرجاحة رأيها عنده، ومن جانبٍ آخر؛ تبين لنا هذه الباحثة، اللمّاحة، فكرة غريبة عن الأغلبية العظمى منّا، ألا وهي: إن المغول من الشعوب الأشدّ احتراماً للأنثى وتقديراً لها، لتخلص في نهاية ما بحثت فيه إلى مقارنة تتجلى بـ«أمن المعقول أن يكون شعب له كلّ هذه العلاقة الطيبة مع الأنثى؛ يسعى للحريق والتدمير في كلّ بقعة يدوسها؟!». سؤال وجيه ويدعو لبحث والدراسة أكثر، ومراجعة الأبحاث التاريخيّة، وفهم من الذي كتب التاريخ في تلك الحقبة الزمنيّة الغريبة!. مع ملاحظة أن كتاب «نساء سلطانات» مملوء بأسماء الأميرات والحاكمات اللواتي تفردن بالإنجازات التي لم يحققها أي حاكم حتى اليوم! وحرمان الأنثى من لقب الخلافة كشرط متعلق بالذكورة منذ ابتداع فكرة الخلافة!.

حكايات طفولة في الحريم
كتاب «أحلام النساء الحريم» وسرد الحكايات، وتجربة مميّزة بين كتابات «فاطمة المرنيسي»، كان أن كَتبته أولاً باللغة الإنكليزيّة، ومنها تُرجم للفرنسية وبعدها للعربيّة، عالجت فيه عوالم النساء المغربيّات في مرحلة الذاكرة الأولى لها، أي مرحلة الأربعينيّات من القرن الماضي، في مدينة فاس المغربيّة، والتي ترويها لنا وهي في عمر التاسعة، في مجموعة من القصص تشبه إلى حدٍّ بعيد السيرة الذاتيّة، لكن في أجزاء الكتاب وصف واختزال كبير لأحداث يوميّة، ومشاهد بين جدران البيت الكبير، وأسطحه، والعالم الخارجي، وبين الرجال، والنساء، وما وراء الحجاب، وعالم الحريم الغريب، وفيه أغرقت الكاتبة «المرنيسي» بالمحليّة وتوجهت به نحو العالميّة، فكان مغامرة منها، ناجحة بامتياز، وحمل توثيقاً غنيّاً يمنح القارئ شغف المتابعة مهما كان موافقاً أو معترضاً لما تذكر وتصف، وغرابة الكتاب أنه من الممكن ألا تكون القاصّة هي فاطمة، فلا تأكيد ولا نفي في هذا الأمر!

لكِ ولهنَّ
لفاطمة المرنيسي أقول: ذُهلتُ كثيراً لحقائق أوردّتها في مؤلفاتك الثمينة، وزادت غبطتي في أنه للنور الفكري وهجٌ أصيل لا يمكن أن يموت، وأنت صاحبة الكلمة الحقّة، والخطوة المناضلة؛ في رفع غطاء الجهل عن نصف المجتمع لدينا، الذي أنهكه الضياع في دوامة التقاليد والابتعاد عن المعرفة، ولربما نساؤنا اليوم هم الأكثر حاجة لقراءة مؤلفاتك ودراستها، فلتكن هذه المقالة دعوة لهنّ على وجه التحديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن