ثقافة وفن

الموسيقا الغجرية بدأت من الهند وانتشرت في العالم

| إدريس مراد

في مواسم القمح وفي قرية تقع في أقصى شمال شرق سورية فوجئنا صباحاً بخيم منصوبة للتو أمام القرية، نحاول نحن الأطفال حذرين الاقتراب منها لنشاهد القفص الذي وضع أمام الخيمة وبداخله طيور الحجل، أو لنكتشف ماذا بداخل الخيمة، هكذا تبقى حياة الغرباء داخل مسكنهم لغزاً على الصغار والكبار ولكن خارجه الرجال يجولون البيوت، يلتقطون رزقهم في تصليح الأسنان أو تلبيسها بالذهب، وفي الأماسي يعزف رجالهم على آلة الكمنجة (الجوزة) ويؤدون الملاحم وأغاني العشق مثل ملحمة ممو زين وسيامند وخجي إضافة إلى الفلكلور وأغاني الأعراس حيث لهم مساهمة كبيرة في حفظ ونشر التراث الغنائي الكردي على الأقل شفاهياً في سورية، هؤلاء كنا نسميهم (القرج) وهم جزء ممن يسمونهم في أوروبا (الغجر).

الانتشار في المنطقة

تاريخياً يذكر الفردوسي أن ملك فارس «بهرام كور» وفي القرن الخامس الميلادي طلب من ملك الهند أن يرسل إليه عشرة آلاف من الرجال والنساء البارعين في العزف على آلة العود، ومنهم انتشر «الغجر» في المنطقة، وفي رواية أخرى تعود هجرتهم إلى أبعد من ذلك بكثير حيث في الأصل من شمال وسط الهند، وتقدر هجرتهم على أنها بدأت نحو 300 قبل الميلاد، عندما انتقلوا إلى شمال غرب الهند، ومن هناك إلى بلاد فارس، ومن ثم إلى أوروبا، ولم تظهر تسمية «الغجر» إلا في القرن الخامس عشر الميلادي عندما كان يعتقد أن هؤلاء الغرباء ذوي البشرة الداكنة يأتون من بلاد غير معروفة، وهناك أيضاً من يربط انتشارهم إلى الظلم الذي مورس بحقهم لمدة خمسمئة عام في رومانيا التي كانوا فيها عبيداً ولم يتم تحريرهم إلا مؤخراً في عام 1856 الميلادي.

كما نعرف أن الغجر من الظواهر الاجتماعية المعقدة الضاربة في أغوار الزمان، وأن انتشارهم لم يقتصر على مجتمع دون سواه، فقد كانوا ومازالوا ينتشرون في المجتمعات البشرية المختلفة، ولهم في كل بلد تسمية وعلى سبيل المثال، في إسبانيا هم «كالو»، في ألمانيا وفرنسا «سينتو»، وفي مصر وبعض الدول العربية هم «نور»، وفي بعض الدول الشرق الأوسط هم «قرج».

الموسيقا وغيرها من المهن

عموماً وعلى مر القرون، تمكن الغجر من البقاء على ذكائهم ومهاراتهم ليس بالموسيقا فحسب بل في تجارة الخيول، وصناعة المعادن، وفي عالم السيرك… ، ولكن بقيت الموسيقا والغناء والرقص مهنتهم الأكثر شيوعاً، واعتبروا عند العديد من الباحثين على أنهم نحل الموسيقا، وعند انتقالهم من مكان إلى آخر، يتعلمون موسيقا الناس من حولهم، من أجل كسب لقمة العيش ويمزجونها بالأخرى في البلد التالي، ما يمنحها إحساساً فريداً وجديداً، وفي ذات الوقت بقيت موسيقا الغجر مرتبطة بالمكان من ناحية التطور، فتقدمت في الأمكنة ذات الموسيقا المتطورة، ففي سورية وإذا أخذنا الجزيرة السورية مثالاً بقيت موسيقاهم فقيرة على آلة واحدة فقط «الكمنجة- الجوزة» أو على الطبل والزرنا حتى لو كانت لهم مساهمة في حفظ التراث، أما في حمص فبقيت أكثر تطوراً ربما لقربها من العاصمة والإعلام، وفي هذه المدينة منهم من انخرط في الموسيقا العربية وتعاملوا مع كبار الفنانين العرب وكان لهم الفضل بإدخال آلة البزق (التي هي من عائلة الطمبور) إلى دنيا العرب، ولكن في أوروبا اشتهروا بمساهماتهم في تطوير الموسيقا، وهناك العديد من الإشارات التاريخية بأن اللاعب الأساسي في الاحتفالات الملكية والشعبية التقليدية على حد سواء كان من الغجر، إضافة إلى بعض الأدلة التي تشير إلى أن الغجر الذين تم ترحيلهم من البرتغال إلى البرازيل لعبوا دوراً في تطوير السامبا، حيث ظهر فيما بعد تطعيم هذا النوع من الموسيقيا واضحاً في موسيقا الزفاف البلغارية.

المزج بين موسيقا الشعوب

في أي مكان يؤدي فيه الغجري الموسيقا، يقوم بدمجها مع موسيقاه الخاصة، تالياً إذا استمعنا إلى «موسيقا الغجر» في المجر مثلاً وقارناها بموسيقاهم في إسبانيا، سنلاحظ لونين معاً وهذا ما لا نراه عند السكان الأصليين، ومثال آخر في هذا السياق، حيث إن للغجر الفضل في إدخال آلة الكلارينيت إلى موسيقا اليونان، والعديد منهم يلعبون عليها ببراعة إلى جانب عازفين محليين، ولكن يبقى الغجري هو المميز بأسلوبه اللوني والسلس والحر بشكل استثنائي، وغالباً هذا الأسلوب يشير إلى التراث الموسيقي في الشرق الأوسط أو الموسيقا الهندية، بميكروتوناتها وارتجالاتها الطويلة حيث يلعب الارتجال دوراً مهماً في موسيقا الغجر، إضافة إلى الجوانب الأخرى المدهشة ممن لها علاقة بالصياغة والجرس الصوتي حيث يميل إلى اللعب خلف الإيقاع، ما يخلق إحساساً جذاباً، واستخدام صوت الصدر بدلاً من نغمات الرأس، وهذه العناصر تتضمنها بالتأكيد الثقافات الأخرى، وهنا أستذكر الموسيقي الغجري دجانغو راينهاردت وإسهامه في تغيّر دور آلة الغيتار في موسيقا الجاز، حيث أنتج تعاونه مع عازف الكمان ستيفان جرابيللي بعضاً من أكثر موسيقا الجاز أناقة واستمرارية، وخلق شكلاً رائعاً من الموسيقا التي لا تزال تعزفها الفرق الغجرية في فرنسا.

الفلامينكو والجاز

وللغجر الفضل في تطوير موسيقا الفلامينكو في أوروبا لدرجة أنها أصبحت مرادفة لهم، ومن المغنيات اللواتي أدّين الفلامينكو والجاز ينبغي أن نذكر الأكثر شهرة في العالم هي المقدونية الغجرية ايسما رادزيبوفا التي انطلقت في الستينيات ونالت شهرة كبيرة في أوروبا والعالم.

أنهي هذا الاختزال في الموسيقا الغجرية برؤية للمؤلف الموسيقي العالمي فرانز ليست الذي بحث في الموسيقا الغجرية الذي وجد بأنها مشرقية من دون شك وقال «كل الموسيقيين الهنغاريين هم غجر، كل الموسيقا المجرية هي غجرية…» في إشارة منه إلى كل أوروبا الشرقية ومعها تركيا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن