تقرأ لأحد الكتاب وتجلّه، وتستمع لواحد من الأساتذة وتعجب، وتجالس شخصاً لتخرج بانطباع حَسَن، وتنتهي القضية هنا، ويبقى الإجلال والإعجاب والاستحسان، وهذا الأمر كثير في عالم الثقافة والتدريس والتحصيل، فكم من المشيدين بالعقاد، وهو يستحق، ولم يقرؤوا له، وكم من المتعصبين للرافعي، وقد قابلتهم في رحلتي التدريسية، ولم يقرؤوا له، بل لا يقدرون على قراءته! وهم أنفسهم متعصبون لطه حسين ولطفي السيد دون أن يقرؤوا أيضاً، ودون معرفة، والعديد من مثقفينا وأساتذتنا يستندون في إجلالهم أو رفضهم لاختصاصهم وتذوقهم، وربما لتوجهاتهم الإيديولوجية أو الدينية والمذهبية!
والغريب أن بعض الأصدقاء يرفضون أمراً مع أجلاء، ويتطوعون لإسباغه على آخرين وبطريقة فاضحة، وهم يعلمون أن هؤلاء ليسوا شيئاً أمام الذين يرفضونهم..
تصوّر معي أحد الأجلاء يرى لطفي السيد لا شيء، ويعدد مثالبه، وهو الذي كان سيداً للثقافة والصحافة، وأستاذاً لجيل من التنويريين، وقد يمضي ساعات معك وهو يناقشك في طه حسين ومثالبه، ليخرج بنتائج مذهلة في التناقض، وتغيب عنه الأمانة العلمية مطلقاً، ومع ذلك يمكن أن تسمع وتتفهم، فهو لا يحب هؤلاء، ومن المفترض أنه قرأهم، ويقدم رأيه الناقد من منطلق فكري يستحق الاحترام، وإن لم تقبله.. لكن أن يأتي الشخص هذا والذي من العلم بمكان، وعن الصدقية بمكان ليسبغ على أناس لا يصلون إلى حاشية رديئة عند طه حسين وأحمد لطفي السيد وأمين الخولي ونجيب محفوظ، يسبغ عليهم صفات العلامة والفهّامة والنحرير الذي لا يشقّ له غبار! فهذا أمر يحتاج إلى مراجعة! خاصة وأن هذا الجليلَ وهو من المتعمقين، ولا أقول علامة، حتى لا أقع في الفخ نفسه، يعلم أن اللفيف الذين نعتهم بالعلامة لا يشكلون فاصلة على حاشية رديئة لأولئك الذين انتقصهم وينتقصهم باستمرار.
أذكر مرة أن واحداً من زملائي الذين أحبهم، أمضيت ساعات في نقاشه بجدوى أن أدرّس لطلابي طه حسين، وهو يحدثني عن إلحاده وآرائه وتبعيته للمستشرقين، ولكنه قبل على مضض وعناد مني، ولأنني قلت له: قد أتفق معك في كل شيء، لكنني أتعامل مع النص. وصديق متقدم عمراً وقدراً استوقفني ليعتب عليّ لأنني أهديت كتاباً لطه حسين، وحاورني مطولاً وهو ينتقص طه حسين، وكان عميد الأدب العربي يقف بعيداً بابتسامته مغمض العينين يقول للجميع: أحمد الله أنني أعمى ولا أرى وجوهكم.
صديقي الحبيب لأربعة عقود، وهو من هو في العلم، يسبغ الصفات الفضفاضة على تلاميذ تلاميذ طه حسين، والذين لم يتركوا بصمة بحجم إصبع في حياتهم الممتدة، ولم يملك إلا محاولات للدفاع، وأنا أسأله: هل هذا علامة وطه حسين من اللصوص؟ من الملحدين؟ من الخونة؟
والصديق المتقدم عمراً وقدراً يكابر ويعاجز طلبته في طل بات قد تكون منطقية حيناً وغير منطقية غالباً، وفي الوقت نفسه يتساهل مع آخر إلى حدّ قبول سرقة الفكر والتقميش في أحايين كثيرة!
فكرنا العربي اليوم في مأزق شديد، وقد يكون هذا المأزق من طبيعة التكوين، فهذا يدّعي أنه الفقير الحقير إلى الله تعالى، وهو في قرارة نفسه من المتكبرين الذين ينالون الناس، وهذا يسلبه أصحاب الفضل فضلهم، ويسبغ الفضل على ما لا فضل فيه أو له، فمتى يمكن أن نصل إلى علمية دقيقة، ومتى نقارب العلم؟ فلا نصف شخصاً لمجرد أنه صاحب شهادة ومنصب بالعلامة والفهامة، ولا نطعن عالماً بعقيدته لمجرد أننا لا نحبه؟
حين كنت أقلّب في مكتبتي أخذت كتاباً محققاً لأحد المحققين، الذين تصلني بهم صلة معرفة، فرأيته يصف طبعات الكتاب، فيقول طبعة الأب لويس شيخو في نهاية القرن التاسع عشر، وبالحرف يقول: لم أتمكن من الاطلاع عليها لأنها مفقودة، ثم لا يلبث أن يضع ملاحظات عليها بما فيها الضبط!! فكيف انتقدها وعاينها وهو لم يطلع عليها؟
الأب لويس شيخو عمل وخدم التراث في مرحلة، ربما لم تكن أمامه مصادر، ربما مال مع توجهه، وهو رجل دين، لكن أليس من الأجدى أن نقدم دراسة علمية تقوم على النص والمعاينة؟!
الأمانة العلمية تخرّج باحثين ونقاداً لا يعترفون بالألقاب، فطه حسين لم يضع لقب الدكتور أمام اسمه لأنه أكبر، وفي أحاديثه الأخيرة قبل وفاته قال: إن كل ما كتبه يمكن أن يكتبه سواه..
ونحن نوزع الألقاب الفضفاضة، وغير المستحقة على أناس نعلم أنهم ليسوا كذلك، ونسلب من الحقيقيين محاسنهم.
بين الشخصية والشخصنة تدور ثقافتنا، ولا ننتظر سوى ركام من الثقافة والمثقفين، والمزيد من العلامة والفهّامة والنظارة، والذين لم يقرؤوا سوى ذواتهم، ولم يورثون سوى المرض وتوابعه!
فهل ننجو أم نمارس فلسفة الانتظار مع العلماء الأجلاء الفاهمين الذين لم يفعلوا؟