قضايا وآراء

قمة «ناتو» وانتصارات «حساء البورش».. هل استعجلنا الاعتراف بلوغانسك ودونيستك؟

| فراس عزيز ديب

سنُحارِب الروس حتى آخرَ جندي أوكراني، هذا باختصارٍ ما ساقتهُ قمة حلف الناتو التي انعقدت في العاصمة الإسبانية مدريد نهايةَ الأسبوع الماضي، قمة لم تأتِ بأي جديد إلا بعض «التخبيصات التاريخية» التي ساقَها عن جهلٍ أو عن غباء بعض القادة الأوروبيين كرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي وصف حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا بـ«الحرب الذكورية» التي ماكان ليفعلها لو كان امرأة وتجاهلَ بأن رئيسة وزراء مملكتهِ في ثمانينيات القرن الماضي «مارغريت تاتشر» هي من خاضَت حرب الفوكلاند مع الأرجنتين.

الكثير من التساؤلات تركَتها هذه القمة وقراراتها المبهمة أو التسويفية التي يدفع ثمنها الشعب الأوكراني وحيداً، هل يخشى الـ«ناتو» روسيا فعلياً؟ أم إنه يريد لها حرباً للاستنزاف لا أكثر؟

ببساطة ليس من الآن ولكن منذ أسابيع بدَت فرضية استنزاف الروس هي خطة غبية لأن الجميع تم استنزافه من دون استثناء، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مثلاً طرحَ فكرة زيادة في الراوتب والأجور تقارب 3.5 بالمئة لمواجهة الارتفاع الجنوني في الأسعار، فكان رد الفرنسيين بما معناه «ردها على جوعك»، لأن الهوة باتت كبيرة بين الرواتب والنفقات، مع أن فرنسا لا تخوض أي حرب وهي عملياً من تفرض عقوبات على هذا وذاك، دون أن ننسى فعلياً اضطرار الرئيس ماكرون لطرح زيادات كهذه من باب المزايدة السياسية، لكونه مازال يعيش حالةَ الخلل السياسي الناتج عن ضياع الأغلبية الصريحة في البرلمان الفرنسي.

في السياق ذاته فإن استنزافاً من نوعٍ آخر يجري في الداخل الروسي لكنه ليسَ الاستنزاف الذي يبحث عنهُ الغرب، فقرار الرئيس بوتين بتأميمِ شركة حقول «سخالي 2» المنتجة للغاز المسال هي ضربة مؤلمة لكل من شركتي «شل» البريطانية و«توتال» الفرنسية، مع التأكيد هنا أن هذا القرار يأتي ضمن سياق قانون يسمح للرئيس الروسي بتأميم ممتلكات جميع الشركات المُنسحبة من روسيا بعدَ العقوبات الغربية على الكيانات الاقتصادية الروسية واستبدالها بشركاتٍ روسية، وهناك من سيسأل: هل ستستطيع هذهِ الشركات الروسية بالنهاية تغطية الثغرات التقنية التي سيتركها رحيل عملاقي الصناعات النفطية الأوروبية؟ الجواب هنا بسيط، أولاً نحن نتحدث عن روسيا ولا نتحدث عن دولة خارج سياق التكنولوجيا في شتى المجالات، ثانياً في الحروب قد تكون القرارات مؤلمة لكنها الحرب والدفاع عن المصالح التجارية للبلاد أهم من الاستسلام لسياسةِ لي الذراع التي ينتهجها الغرب، دون أن ننسى مثلاً أن شركة كـ«توتال» الفرنسية تعتبر من أهم رافدي صندوق الضرائب الفرنسي عن نشاطاتها داخل وخارج البلاد، وسياسة التحصيل الضريبي الفرنسية هي الجوهر الذي تقوم عليه سياسة الدعم الاجتماعي في فرنسا، أي إن الخسائرَ الطويلة الأمد ستلامس الجميع من دون استثناء.

ختاماً مع موضوع الاستنزاف، فإن هناك استنزافاً خطيراً يجري في الداخل الأوكراني، ليس متعلقاً فقط بهجرةِ القامات العلمية والطبية الذين، ويا للمصادفة، تُفتح لهم مباشرةً أبواب سوق العمل الأوروبية، تحديداً في كل من فرنسا وألمانيا اللتين تعانيان أساساً من نقصٍ بهذا المجال، لكننا نتحدث عن استنزاف الأراضي وفقدان النظام السيطرة عليها لمصلحة المجموعات الانفصالية، استنزافٌ يسير ببطءٍ وسط الوعود المبطنة للرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي الذي لم يفهم بعد بأن «ناتو» لن يُطلقَ رصاصة واحدة لحمايتهِ، ما يعني أن عمليات سلخ الأراضي ستستمر تحديداً أن بعض الجمهوريات التي أعلنت انفصالها لن تنضم إلى روسيا بل ستبقى على هيئةِ جمهوريات مستقلة تتطلب عودتها الحوار معها مباشرةً وليسَ مع الروس، ليبدو أن جلَّ القرارات التي بات زيلنسكي قادراً على اتخاذها هو قطع العلاقات مع سورية بسبب اعترافها باستقلالِ جمهوريتي لوغانسك وودونيستك.

هناك من يسأل: هل تسرعت الجمهورية العربية السورية بالاعتراف باستقلالِ الجمهوريتين كإرضاءٍ للحليف الروسي؟ هل يمكن لنا ونحن من يعيش أجواء مشابهة من وجود نزعات انفصالية أن نتحمل تبعات قرار كهذا مستقبلاً؟

مبدئياً دعونا نتفق على أن علينا ألا نفرح لقطع العلاقة مع أي دولة، فسورية التي كانت ولا تزال بوابة للسلام العالمي لم تؤذ يوماً أحداً ولم تبادر بالاعتداء سياسياً أو عسكرياً على أحد، لكن من الخطأ الاعتقاد بأن الجمهورية العربية السورية اعترفت بالجمهوريتين من زاوية «إرضاء الروس»، لأن القيادة السورية لو اتبعت من الأساس مبدأ إرضاء هذا أو ذاك بمن فيهم الأصدقاء قبل الأعداء لما طالت الحرب عليها كل هذه السنوات، ما جرى هو في النهاية مبدأ المعاملة بالمثل فالجانب الأوكراني منذ سنوات اعترف بما يسمى سفارة الائتلاف في وكر الدوحة الإرهابي، بل إن وفداً من هذا الوكر المسمى سفارة سورية زار السفارة الأوكرانية متضامناً واستقبلته السفارة الأوكرانية بصورةٍ رسمية، وهذا يعني عدمَ اعتراف أوكراني بالسلطات الشرعية السورية، وهذا يعني أن سورية ليست من بدأ سياسة «عدم الاعتراف»، النقطة الثانية لا تبدو المقارنة بين المشهدين ناجحة، في الجانب الأوكراني نتحدث عن مناطق كاملة يمتلك سكانها انتماء قومياً معيناً، في سورية وتحديداً المناطق التي لا تزال خارج سيطرة الدولة لا توجد منطقة بنزعة قومية واحدة وموحدة، لذلك لا يبدو بأن القرار الرسمي السوري خارج عن هذا السياق، وإن كان التهليل لقرار الرئيس زيلنسكي بقطع العلاقة مع سورية هو جل ما يمكنه اتخاذه من قرارات حاسمة في ظل الورطة التي وضع نفسه فيها، فإن هذا الأمر يثبت حقيقة أن هذا الرجل يعاني انفصاماً ما، مشكلته ليست مع سورية مشكلته الحقيقية هي الـ«ناتو» الذي خذله، فهل يكون قرار الـ«ناتو» بتوسيع مساحته الجغرافية عبر انضمام كل من السويد وفنلندا تقدمة لطوقِ النجاة الذي يجهزه للقيادة الأوكرانية؟

ليس هناك أفضل من رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان في بيع المواقف والتعاطي مع سياسة الأمر الواقع، وجد بمسعى الناتو بتوسعة أعضائه عبر ضم كل من السويد وفنلندا فرصة للابتزاز، رفض هذا الانضمام بذريعة إيوائهما لقياداتٍ من إرهابيي حزب العمال الكردستاني، طبعاً كعادته وعلى غرار رفضهِ عودة العلاقات مع الكيان الصهيوني حتى يتم رفع الحصار عن غزة وعودة الحقوق الفلسطينية كما كان يتاجر بها، فإن طموحاته كانت في مكانٍ آخر، وهي المنطقة الآمنة في الشمال السوري، رفضَ الروس تسليماً لأردوغان بمسوغَّات العملية العسكرية في الشمال السوري فاختفى فجأة إرهابيو حزب العمال الكردستاني من كل من فنلندا والسويد وأعطت تركيا الموافقة على انضمامهما، فهل كان الثمن موافقة الـ«ناتو» على دعم العملية العسكرية التركية في الشمال السوري؟ لا يمكننا هنا الحديث عن ثمن لأن الـ«ناتو» أساساً لم يرفض هذه العملية.

مبدئياً بدا أردوغان كأنهُ يوجه صفعة للروس، لكن في الحقيقة فإن روسيا لا ترى بكل من السويد وفنلندا أعداءً عليها القلق من تمدد الناتو باتجاههما، هذا الكلام كرره المسؤولون الروس كثيراً، أوكرانيا حالة استثنائية لذلك لا يمكن تمرير انضمامها للناتو بهذه السهولة، لذلك تركت أردوغان يسير بالطريقة التي يريدها من دون أن تتعاطى مع الأمر من باب المزايدة السياسية، فماذا ينتظرنا؟

ربما لم تكن قمة الـ«ناتو» فاشلة، لكنَّهم ببساطة قدَّموا كل مايمكن تقديمهُ لمن يدفعونهم نحو المواجهة، لم يقولوا منذ اليوم الأول بأنهم سيخوضونَ الحرب المباشرة دفاعاً عن نظام زيلينسكي، لكن العبرة بمن لم يفهم بعدَ ماذا أرادَ الـ«ناتو» من أوكرانيا، دون أن ننسى الدعم المهم الذي تلقته كييف لتثبيت ملكيتها التاريخية لحساء «البورش» بعدَ أن كان يصنف كحساء روسي، إنجاز يُضاف لإنجازات الرئيس زيلينسكي مع حلفائهِ في «ناتو»، في السياق ذاته علينا أن ندرك فعلياً أن المعركة الأهم الجارية حالياً هي المعركة الاقتصادية هي الزلزال الذي سيطيح بدولٍ ويجبر بعضها الآخر على التراجع، أما ما تسمعونه عن عمليات عسكرية هنا أو وساطاتٍ هناك فهي لاتعدو كونها مضيعة للوقت، نحن اليوم في مرحلة تصفية حسابات لا تقبل أنصاف المواقف وأنصاف الحلول!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن