بحديث وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر إلى صحيفة «صاندي تايمز» البريطانية قبل نحو ثلاثة أسابيع، والذي سبقه أيضاً كلمته التي ألقاها في مؤتمر «دافوس» الاقتصادي لهذا العام، يمكن القول إنه تولدت رؤية أميركية جديدة للصراع العالمي الدائر راهناً، وفي قلبه الصراع المحتدم في أوكرانيا، والذي سيحدد بدرجة كبيرة المآلات التي سيفضي إليها الأول.
نقلت الـ«واشنطن بوست» في عددها الصادر في 24 أيار 2022 مقتطفات من الكلمة التي ألقاها كيسنجر أمام مؤتمر «دافوس» الاقتصادي، الذي يصح توصيفه بـ«الاستثنائي» لهذا العام لاعتبارات تتعلق بانعقاده في ظلال الحرب الأوكرانية التي باتت راسمة للكثير من السياسات العالمية، ومحددة لخيارات العديد من القوى العالمية التي راحت تضبط إيقاعاتها على وقع التطورات الحاصلة فيها، وفيها دعا كيسنجر إلى «تقسيم أوكرانيا وفق خط الفصل القائم قبل بدء الحرب»، أي قبل 24 شباط الماضي، ثم دعا إلى بدء المفاوضات بين روسيا والغرب في غضون شهرين، والأبرز مما قاله في تلك الكلمة هو أن «أي متابعة للحرب خلافاً لذلك ستكون ليست حرباً من أجل أوكرانيا، بل حرباً جديدة ضد روسيا نفسها» قبيل أن يختم بتحذير مفاده أن «هزيمة محرجة لروسيا ستزعزع الاستقرار الأوروبي على المدى الطويل».
وفي حديثه لصحيفة «صاندي تايمز» البريطانية قال كيسنجر: «السؤال الآن هو كيفية إنهاء هذه الحرب» التي رأى أن نهايتها يجب أن تحفظ «مكاناً لأوكرانيا، وكذلك لروسيا»، هذا إذا كنا «لا نريد أن تصبح روسيا موقعاً أمامياً للصين في أوروبا».
يصح اعتبار هذين الحديثين رؤية إستراتيجية متكاملة، وهي على النقيض تماماً مع رؤية الإدارة الأميركية الراهنة التي سارت على النهج الذي اختطته إدارة دونالد ترامب التي سبقتها، والسير إياه ظهر في تبني جو بايدن للإستراتيجية التي لخصتها وثيقة «الأمن القومي الأميركي» التي وقعها ترامب أواخر العام 2017، والتي صنفت الصين كـ«منافس إستراتيجي»، وروسيا كـ«تهديد إستراتيجي رئيسي»، الأمر الذي لم يلتزمه ترامب من الناحية العملية في سياساته، ولذا فإن من الراجح أن يكون ترامب قد ذهب ما ذهب إليه تحت ضغوط جنرالات البنتاغون تماماً كما حصل معه إبان التراجع عن قرار سحب قواته من الشرق السوري، أما بايدن فأبدى، منذ وصوله إلى السلطة قبل 17 شهراً، ميلاً عملياً لتبني تلك الإستراتيجية بأدق تصنيفاتها الأمر الذي شكل الأرضية المناسبة لاندلاع الحرب الأوكرانية، فجميع السياسات التي مارستها واشنطن، في غضون المرحلة آنفة الذكر، كانت تشير إلى أن الأخيرة ماضية في دفع قنوات السياسة نحو الإغلاق الذي يفرض من الناحية العملية الوصول إلى الحرب وسيلة لتحصين المواقع، ودرءاً للأخطار التي تهدد الأمن على النحو الذي عبر عنه الرئيس الروسي في خطابه الذي ألقاه في 21 شباط الماضي، أي قبل ثلاثة أيام من اندلاع النار الأوكرانية.
وضع رؤية كيسنجر كند للرؤيا التي تتبناها إدارة تمسك بالقرار في دولة عملاقة ليس نوعاً من «المبالغة» السياسية، فالرجل الذي قاد السياسة الأميركية لمدة تزيد على ثماني سنوات استطاع من خلالها ترك إرثاً من «الانجازات» لا تزال عالقة على جدران غرف صناعة القرار في واشنطن، ثم إنه ظل يحظى بالكثير من التقدير وخصوصاً لجهة الآراء والنظريات التي راحت ذهنيته تجترحها، ولا أدل على ذلك من أن الذات الأميركية التي بدت جريحة يوم 11 أيلول 2001 لم تجد من تستند إليه، لرقب الطريق السليم، من تلك الذهنية، والثابت هو أن الرؤيتين سوف تتدحرجان، ككرتي ثلج، فيما السرعة التي ستتفوق إحداها فيها على الأخرى ستكون أمراً محكوماً باعتبارات عدة، لكن نتيجة السبق سوف تحسم بمفاعيل «الآلام» الاقتصادية التي باتت تصدر عن هذا وذاك، وأهمها تلك التي تصدر عن الأوروبيين على اعتبارهم «العرق» المتفوق على العالم، وما يجري عليهم هو الأكثر تأثيراً على مسار «الديمقراطية» في العالم.
الآن، من الثابت أن رؤية جو بايدن لا تزال هي الأكثر رجحاناً، بدليل استعار الحرب الأوكرانية التي تبدي استعداداً لاتساع رقعتها لتشمل كل نقاط التماس مع الروس، الأمر الذي يمكن لحظه في الحماوة الراهنة بين بكين وتايوان، لكن ذلك قد لا يستمر طويلاً على وقع «الآلام» الاقتصادية المشار إليها سابقاً، لترجح كفة نظيرتها عند كيسنجر التي عبرت كل من باريس وبرلين عن تأييدهما لها، ولربما يحدث ذلك في ظل ولاية بايدن نفسه التي ستستمر لسنتين ونصف قادمتين، الأمر الذي يعني العودة إلى سياسة السلف الديمقراطي باراك أوباما الذي كانت إستراتيجيته تقوم على التفريق بين موسكو وبكين، كفعل لا غنى عنه لاحتواء الاثنتين، أو بمعنى أدق إرضاء إحداهما لاحتواء الأخرى، والسيناريو المحتمل السابق ذو طريق واحد، بمعنى أنه يقود إلى استرضاء موسكو لاحتواء بكين.