انتشر الجيش العربي السوري على خطوط تماس منطقة عين العرب الواقعة تحت سيطرة ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد» شمال شرق حلب، مقابل تمركز جيش الاحتلال التركي ومرتزقته، معززاً ذاك الانتشار بالعديد من الدبابات والمدافع الثقيلة والعربات العسكرية، الأمر الذي يطرح جملة من التساؤلات، فيما إذا كانت موافقة ميليشيات «قسد» على انتشار الجيش في مناطق سيطرتها ورفع العلم السوري على جميع مقارها، أمراً نابعاً عن قناعة بضرورة التوصل إلى حل نهائي مع الدولة الأم سورية، والخروج من عباءة المحتل الأميركي، بمعنى هل القرار المتخذ إستراتيجي أم إنه تكتيكي، ونتيجة لتفادي الدروس المرة التي ذاقت طعمها سابقاً في عفرين بريف حلب، ورأس العين بالحسكة وتل أبيض بالرقة وهل يشكل ذلك سبباً في سحب ورقة النظام التركي «الذريعة»، في شن عدوان على منبج وتل رفعت وعين العرب؟ وهل يمكن أن يكون ذلك بداية للعودة إلى اتفاق أضنة بين الدولة السورية والنظام التركي؟
في الحديث من آخر التساؤلات واتفاق أضنة، فإن ذلك يستحضر المساعي الإيرانية «الوساطة»، من أجل التوصل إلى ما يمكن أن يسمى مصالحة بين دمشق وأنقرة، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد مؤخراً بالقول: «نحن أعلنا عن استعدادنا التام لتقديم حل سياسي والمساعدة في هذا المجال، وسنبذل قصارى جهدنا للحيلولة دون حدوث عملية عسكرية والتركيز على حل سياسي في هذا الأمر، ونحن متفائلون في هذا الأمر، ونسعى أن تحل كلتا الدولتين الجارتين سورية وتركيا هذا الأمر عبر الطرق الدبلوماسية وعبر الحوار»، وهذا الأمر إن أمكن حدوثه، فإن المعطيات تؤكد عدم إمكانية حصول «مصالحة» عامة حالياً، لسبب بسيط، وهو أن علاقة النظام التركي مع سورية، ليس بمعزل عن جملة من العلاقات الأخرى مع الأميركي والروسي، ومدى قبول الإدارة الأميركية بأن تجنح أنقرة إلى الحل مع سورية، ما يعني انتصاراً بشكل أو آخر للدولة السورية ودول الأصدقاء روسيا وإيران.
إن إمكانية «المصالحة» يمكن أن تبدأ بشكل جزئي ومن الباب الأمني، فكما أن لتركيا «مخاوف أمنية» كما تدعي من وجود ميليشيات «قسد» في الشمال السوري، فإن لدمشق ملايين المخاوف الأمنية من النظام التركي، من شمال شرق سورية إلى شمال غربها وصولاً إلى إدلب، واحتلالها أراضي سورية، ودعم تنظيمات إرهابية، وتسهيل أسباب البقاء لها، وعليه فإن العودة إلى اتفاق أضنة 1998 يمكن أن يشكل أرضية أولية لإبداء حسن نية من النظام التركي للعودة إلى علاقات سليمة لاحقاً، من دون تجاهل الانسحاب من الأراضي السورية التي يحتلها الجيش التركي، والتخلي عن دعم التنظيمات الإرهابية، التي تشكل خطراً داهماً على أمن سورية القومي.
وفيما يخص التغير في سياسة ميليشيات «قسد» وموافقتها على دخول الجيش العربي السوري إلى مناطق سيطرتها، فيبدو أنها أدركت ما يواجهها من أحداث مأساوية تشبه كثيراً ما واجهته في عفرين وتل أبيض ورأس العين، واستطاعت، بمجهود فردي، أو بمشورة من عاقل مقرب منها أن تترجم رسائل عدة أرسلها كل من الروسي والأميركي والإيراني، بخصوص تهديدات النظام التركي من شن عدوان على عين العرب أو منبج وتل رفعت، فالبعض فسر تصريح وزير خارجية إيران خلال زيارته أنقرة في 27 الشهر الماضي بالقول: «نحن نتفهم مخاوف تركيا الأمنية ونجري مناقشة مفصلة مع جاويش أوغلو حول إمكانية القيام بعمليات خاصة في أجزاء من سورية»، بأنها رسالة إلى ميليشيات «قسد» أكثر مما هي رسالة إلى دمشق خاصة أن عبد اللهيان أكد لاحقاً في دمشق أن «المسؤولين الأتراك باتوا يفضلون المسار السياسي مع دمشق لتبديد مخاوفها الأمنية شمالي سورية»، كما أن «قسد» سمعت من موسكو الرسالة ذاتها حيث قالت صحيفة «الأخبار» اللبنانية إن الجانب الروسي أبلغ الميليشيات بأنهم غير قادرين على حماية المنطقة، إلّا في حال كانت تحت سيادة الدولة السورية، لأنهم هنا بدعوة رسمية من القيادة السورية، وجدّد دعوته «قسد» إلى تسليم المنطقة إلى الدولة السورية، والعمل تحت سيادتها، لضمان عدم شنّ تركيا أيّ عدوان جديد في الشمال.
المتغيرات لم تكن فقط من الجانب الروسي والإيراني، بل إنها طالت ما تسميه «قسد» حليفاً لها، وهي الإدارة الأميركية، وعلى ما يبدو فإن الميليشيات، قرأت بشكل جيد ما تم في اجتماع حلف «الناتو» في مدريد وموافقة النظام التركي على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، وأن تلك الموافقة هي بالتأكيد مقبوضة الثمن، وأنهم «قسد» في جزئية ما إحدى ضحايا تلك الموافقة، لأنه لا يمكن لواشنطن التضحية، إذا ما جد الجد، بتركيا لمصلحة «قسد»، وهذا سرعان ما ظهر لاحقاً إذ أكد المتحدث باسم رئاسة النظام التركي إبراهيم قالن والسيناتور الأميركي ليندسي غراهام، ضرورة مكافحة كل التنظيمات الإرهابية التي تهدد الأمن القومي التركي، ووحدة الأراضي السورية بحزم، ومن دون تمييز، بما فيها ما يسمى «حزب العمال الكردستاني – PKK» وميليشيا «وحدات حماية الشعب- YPG» وتنظيم داعش الإرهابي.
بعيداً عن جميع التحليلات والتوقعات والقراءات، حول ما جرى، وما يمكن أن يجري، من احتمالية نجاح للمساعي الإيرانية، في التوصل إلى «مصالحة» بين سورية والنظام التركي، وما يمكن أن يعترض ذلك من عراقيل، فإن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها، وعلى ميليشيات «قسد» استيعابها أن ما من حام للأراضي السورية، ولكرامتها وسيادتها إلا بندقية الجيش العربي السوري، ولا ظل يعادل ظل علم الجمهورية العربية السورية، والعودة إلى سنوات عشر مضت، وما وصلت إليه سورية يدرك أي مشكك حقيقة ما نقول.