قضايا وآراء

من فيينا إلى الدوحة «طقوس التحولات والإشارات»

| عبد المنعم علي عيسى

بشكل ما يمكن القول: إن القرار بنقل المفاوضات الرامية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني من فيينا إلى الدوحة التي شهدت يوم الثلاثاء 28 حزيران الماضي أولى جولاتها، كان يحمل في طياته شيئاً يتجاوز المعلن عنه، فوفق الإعلان الذي حمل قرار نقل المفاوضات، كان السبب الأبرز في تبرير فعل كهذا ينحصر في ضمان مشاركة الروس الذين طالتهم العقوبات الغربية التي جاءت بمنحى تصعيدي منذ شهر آذار المنصرم، وفي سياقاتها حملت تقييداً لحركة الدبلوماسيين الروس أقله داخل الدول التي ذهبت نحو التماهي مع الإملاءات الأميركية، واللافت هنا هو أن دول الخليج لم تكن من بين تلك الدول على الرغم من أهميتها النفطية التي يمكن لها أن تلعب دوراً حاسماً في المشروع الغربي الرامي لعزل موسكو وضرب اقتصادها الأمر الذي يبين بوضوح عبر رزم العقوبات التي بلغت ثمانياً قبيل أن تتم الأزمة الأوكرانية شهرها الرابع.

بشكل ما أيضاً يمكن القول إن اختيار الأرض التي سيجري عليها التفاوض غالباً ما يكون ذا حيثية دقيقة، وهو في الآن ذاته يحمل بين طياته مؤشرات عدة عما يجول في دوائر القرار التي تدير عمل المتفاوضين، وفي لحظ هذا وذاك، يمكن القول: إن اختيار الدوحة لتكون بديلاً من فيينا لم يكن مصادفة، فالأخيرة لا تمثل استفزازاً للروس الذين نظروا إلى الدور القطري، والخليجي عموماً، على أنه «مرض» بدرجة مقبول قياساً لمواقف تلك الدول التي انتهجتها بعيد اندلاع النار الأوكرانية، ولا مستفزاً أيضاً للإيرانيين الذين ينظرون إلى الدور القطري على أنه الأقرب إليهم، من بين دول الخليج، حتى في عز السخونة التي شهدتها العلاقة الإيرانية الغربية منذ القرار الذي اتخذته طهران شهر آب من عام 2005 الذي قضى باستئناف تخصيب اليورانيوم، والذي قاد نحو محطات أكثر سخونة وخصوصاً ما بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلغاء الاتفاق النووي الموقع مع إيران، زمن سلفه باراك أوباما، شهر أيار من عام 2018.

قبيل أن تنطلق عجلة التفاوض على «الأرض» الجديدة كانت هناك العديد من المعطيات التي تقول إن العجلة قد أحيطت بالعديد من إجراءات الصيانة اللازمة لانتقالها من «طرقات باردة» إلى طرقات حارة، ومن المؤكد أن المهمة الأساس كانت قد وقعت على عاتق الأوروبيين لاعتبارات عدة لعل أبرزها أن هؤلاء ظلوا من دعاة التفاوض رغم إلغاء الاتفاق وإن كانت طهران قد اتخذت «الوسطية» الأوروبية دريئة للتصويب عليها، الأمر الذي لم يرق، وفق تصويبات طهران ما بعد أيار 2018، لمستوى يفصل فيه بين مصالحه ومصالح الأميركيين، ومن الراجح أن زيارة وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى طهران قبيل أيام من انطلاق مفاوضات الدوحة كانت قد أعطت المزيد من الزخم لإمكان اتخاذ موقف متقدم فيها، وخصوصاً أن كل التأكيدات التي رشحت عن دوائر صنع القرار الأوروبي ذات الصلة كانت تقول: إن «مسودة» للاتفاق قد أنجزت قبيل توقف المفاوضات، وإن العالق منها أمران اثنان، أولهما الضمانات التي يمكن لواشنطن تقديمها بما يخص عدم تكرار «سيناريو» أيار 2018، وذاك أمر بالغ الأهمية لطهران في ظل وجود مؤشرات على إمكان أن يعود «مخرجه» إلى السلطة من جديد مطلع عام 2025، وثانيهما مسألة رفع «الحرس الثوري الإيراني» عن لوائح «الإرهاب» الأميركية، ومن الراجح أن هذه المسألة باتت محسومة وإلا لما انطلقت عجلة «مفاوضات» الدوحة بهذه السرعة.

بالنظر إلى «رمزية» المكان، الذي نقصد به الدوحة هنا، وما يتيحه من هامش مناورة أكبر نظراً لتشابكات إقليمية، يمكن القول إن قطر، ومنذ أن برزت كلاعب إقليمي برعاية أميركية في أعقاب بروز «عقابيل» راحت تتكاثر أمام الدور السعودي بفعل مؤثرات عدة، كانت المحطة التي لم تفشل على أرضها أي مفاوضات أجريت عليها، ولعل المثالين الأكثر بروزاً هما المفاوضات اللبنانية التي حدثت في أعقاب أحداث 7 أيار 2008، وكذا المفاوضات ما بين حركة «طالبان» الأفغانية والأميركيين التي قادت، من حيث النتيجة، إلى انسحاب الأخيرين من أفغانستان أواخر شهر آب من العام المنصرم، وهذا لا يعني بالتأكيد أن المعادلة السابقة هي التي ستكون حاكمة لمسار هو أعقد بكثير مما هو الحال عليه في المثالين السابقين، لكن التوصل إلى اتفاق يقضي بوضع آلية معينة لرفع العقوبات المفروضة على طهران، مما أشارت تقارير إعلامية على حدوثه في جولة الدوحة الأولى، يمثل مؤشراً على اقتراب التوصل إلى اتفاق شامل، وربما من الممكن أن يجري الإعلان عنه قبيل زيارة الرئيس الأميركي للرياض المزمع إجراؤها يومي 15 و16 من الشهر الجاري.

الإمكانية تتأتى أيضاً عبر العديد من المؤشرات التي يصح تصنيفها هنا بـ«الثانوية»، ومنها تراجع ألسنة اللهب التي كادت تشعل ناراً إقليمية كبرى، حيث من الملاحظ أن التصعيد كان غالباً ما يصل إلى الذروة التي تسبق اندلاع الشرارة في الحالات التي تظهر فيها عقبة، أو عقبات، على مسار التفاوض الأميركي الإيراني، لكن التصعيد، يتخذ مساراً انحدارياً كلما جرى التوافق على حلول لتلك العقبات، مما يمكن لحظه بوضوح عشية الإعلان عن نقل المفاوضات إلى الدوحة، والآن ما بعد الإعلان عن انتهاء الجولة الأولى من تلك المفاوضات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن