ثقافة وفن

جاك وردة مغامرة نحتية رائدة محفوفة بالغموض … بدأ مشاركاته في المعرض السنوي منذ عام 1951 … الاعتراضات التي وجهت لوردة وفنه كانت اجتماعية وليست فنية

| سعد القاسم

لا يتناسب الحضور القوي للنحات الرائد جاك وردة (1913-2006) في تاريخنا التشكيلي مع ضعف المعلومات عنه، وندرة الكتابات، وحتى تناقضها أحياناً. ففي حين كان مشاركاً دائم الحضور تقريباً في المعرض السنوي منذ عام 1951 ونال ثلاث جوائز منه، وكان عضواً في معظم التجمعات الفنية خلال الخمسينات. حتى إن الناقد د. عبد العزيز علون في كتابه (تاريخ النحت المعاصر في سورية) الصادر عام 1973 اعتبر أن وردة كان في هذه الفترة «واحداً من أبطال الساح». وقبل ذلك وصفه د. عفيف البهنسي في كتابه (الفنون التشكيلية في الإقليم السوري) الصادر عام 1960 بأنه «من أوائل الذين عملوا في مضمار النحت في الإقليم الشمالي». مع ما سبق، وسواه، فإننا لا نعرف شيئاً عن طفولته ونشأته سوى أنه ولد في قرية ماردين التي كانت تتبع لحلب حينذاك.

الدراسة في باريس

ما تلتقي عنده الكتابات حول جاك وردة أنه في عام 1930 سافر إلى باريس من أجل دراسة فن النحت فيها، ولكنه اضطر للعودة إلى سورية بعد عامين من دون إكمال دراسته بسبب ظروفه المادية القاسية، وهناك بعض المصادر التي تتحدث عن أنه عاد إلى سورية عام 1935. وتتحدث غيرها عن أنه درس النحت في باريس عام 1935. كما تتحدث بعض النصوص عن تأثر جاك وردة بأعمال النحات الفرنسي الشهير أوغست رودان (1917-1840)، لكننا مرة أخرى لا نجد معلومات عنه على امتداد العقدين الفاصلين بين عودته من باريس، ومشاركته لأول مرة في المعرض السنوي عام 1951 والذي نال فيه الجائزة الثالثة عن منحوتته (الأمومة). كما لا نجد معلومات موثقة عن تدريسه النحت في كلية الفنون الجميلة عام 1960. فعلى حين يكتفي كتاب (إحياء الذاكرة التشكيلية في سورية) الصادر عن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 بالقول «إنه درّس النحت في كلية الفنون الجميلة بدمشق». تحدث أحد النصوص على موقع الكتروني عن تعرضه لـ«كثير من الانتقادات المضادَة لأعماله وخاصة بسبب اتجاهه الواقعي الصريح.. و.. مضايقة بعض الفنانين الأكاديميين المصريين». لكن هذا النص لا يشير إلى مصادره. ولا يبدو أنه جاء من منطلق توثيقي إذ يخلط بين ما يقوله عن انتقادات في كلية الفنون، وبين ما هو متداول عن انتقادات طالت وردة إثر معرضه الفردي الأول بعد ذلك بأربع سنوات (1964). وأيضاً فإننا لا نجد شيئاً مدوناً من هذه الانتقادات، وعلى حين يبدو مفهوماً الاعتراض اجتماعياً على تماثيل تجسد أشخاصاً عراة بالحجم الطبيعي – أو قريباً منه – فإن افتراض أن هذا الاعتراض وصل إلى النصوص النقدية المنشورة لا يبدو ممكناً ثقافياً، وخاصة في ذلك الزمن الذي هو امتداد للسنوات التي شهدت عرض، وحفظ، تمثال المرأة المفكرة العارية لفتحي محمد. واقتناء المتحف الوطني بدمشق عدداً من المنحوتات العارية لجاك وردة.

النصب الوطنية

كتاب احتفالية العاصمة الثقافية يضيف معلومة ملتبسة ثانية بقوله إن جاك وردة «صممّ النصب التذكاري لشهداء جبل العرب في السويداء»، ذلك أن هذا النصب قد أنجز مرتين متتاليتين بنسختين متباينتين. أما التمثال الذي لا لبس حوله فهو تمثال (أبي فراس الحمداني) في المدخل الشرقي للحديقة العامة بمدينة حلب، والذي نفذه وردة مطلع الستينيات في القرن الماضي بين عودته إلى حلب، ومغادرته إلى أوروبا، وعنه يقول الفنان يوسف عقيل:»هو وجه فارس مليء بالرجولة، ولكن في ذات الوقت لديه النظرة الحالمة للشاعر، رغم أن هذا العمل لا يصل لمرحلة الابداع الفني، ولكنه يصل لأعلى مراحل الوجدان والإتقان في العمل، والحرص على إبراز الجمال». ويعتبره الناقد محمود مكي «من أهم منحوتاته.. منحوت بأسلوب ينتمي إلى المدرسة الواقعية، وهو عمل مميز في الحركة التشكيلية في سورية من مختلف النواحي والمستويات وهو الأول من نوعه في هذا المجال»، ويجد الناقد طاهر البني في كتابه (الفن التشكيلي في حلب) الصادر عن وزارة الثقافة عام 1997 أن وردة التزم في هذا العمل «ملامح الواقعية دون تحريف». بينما ظهرت في منحوتاته السابقة «ملامح الانطباعية وذلك من خلال اللمسات الواضحة في معالجة سطح المنحوتة ما يضفي عليها بعض الحيوية». ومن المؤكد أن البني محقٌ في الإشارة إلى الاختلاف الأسلوبي، مع أني، من وجهة نظر شخصية، أجد أن تصنيف عمل نحتي تحت عنوان الانطباعية أمرٌ تنقصه الدقة، رغم شيوع الحالة. فالانطباعية تقوم أساساً على تهميش الخط لمصلحة اللون، وهذا لا ينطبق على النحت.

شارك جاك وردة في المعرض السنوي لأول مرة في دورته الثانية عام 1951، وكان أول معرض سنوي يقدم جوائز في النحت، وقد نال – كما سبق الإشارة – الجائزة الثالثة (بعد محمود جلال والفرد بخاش)، وفي العام التالي (1952) نال الجائزة الثالثة أيضاً (بعد الفرد بخاش وعدنان الرفاعي) وفي معرض 1953 نال الجائزة الأولى (تلاه الفرد بخاش وعدنان الرفاعي). وقد استمر بالمشاركة بالمعرض السنوي باستثناء معرضي 1955 و1957 لأسباب غير معروفة. وشارك عام 1958 في معرض رابطة الفنانين السوريين للرسم والنحت بمنحوتته (لهفة) المحفوظة منذ ذلك الوقت في جناح الفن الحديث بالمتحف الوطني بدمشق، والتي اعتبرها د. عبد العزيز علون «نموذج لأعمال جاك الذي عرفناه منذ عام 1951 واستمر في بلدنا حتى 1964».

هجرته النهائية

تتعدد الروايات – غير الموثقة – عن سبب هجرة جاك وردة إلى أوروبا. وكل ما نعرفه أن هذا كان عام 1965 بعد عام من أول – وآخر – معرض فني فردي له في سورية، وربما خارجها أيضاً. إذ انقطعت كل أخباره منذ أن سافر إلى ألمانيا وبقي فيها عاماً واحداً قبل أن ينتقل منها إلى فرنسا ليستقر فيها حتى رحيله الذي بدوره تباينت الروايات عن تاريخه.

لا تقاس تجربة جاك وردة بعدد سنواتها، ولا بحجم انتاجها، إنما بحضور اسم صاحبها في ذاكرة التشكيل السوري، رغم كل ما سبق، كصاحب تجربة رائدة وفريدة في تاريخ الفن التشكيلي السوري تستحق الكثير من الإضاءة. ويتحدث الناقد أديب مخزوم في كتابه الموسوعي الهام (تيارات الحداثة في التشكيل السوري) عن مشروع توقف لإصدار كتاب عن جاك وردة. أعتقد أن كل شيء يؤكد أهمية إحيائه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن