جميع المؤشرات والمعطيات السياسية والميدانية تؤكد أن المبادرة التي أطلقتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية ويديرها وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، والمتمثلة في القيام بدور الوساطة بين سورية والنظام التركي من أجل تهدئة وتيرة الصراع في الشمال السوري، لا تبدو أنها ستكون سالكة بسهولة ومرنة التطبيق الفعلي، ولاسيما أن عبد اللهيان أعلن عن هذه المبادرة بعد زيارة مؤجلة أجراها لتركيا استغرقت أربعة أيام، ومازالت بنودها مجهولة بعض الشيء وغير محددة المعالم.
غير أن الجمهورية الإيرانية عبر جهودها الحميدة تسعى لإحداث خرق في المشهد السوري بكل جوانبه من خلال استغلال عوامل عديدة ومتغيرات متسارعة تشهدها تركيا والمنطقة والنظام الدولي، ويتمثل أبرزها في:
1- استغلال إيران لتوجه النظام التركي في إحداث مصالحة إقليمية بدأت مع الإمارات ومن ثم السعودية ومصر، ضمن ادعاء نظام أردوغان في العودة لإستراتيجية «صفر مشاكل»، لكي يشمل قطار هذه المصالحة ليطول العلاقة سورية.
2- رغبة طهران بلعب دور بناء في المنطقة بهدف تقليص الدور والنفوذ الأميركي ويقوض من سياسة المحاور والتحالفات العدائية للتخفيف من وطأة الصراعات المفتعلة ويقلص من قدرة الولايات المتحدة الأميركية في الضغط على إيران أو حلفائها في المنطقة.
3- إدراك إيران بأن أي عدوان تركي جديد على الأراضي السورية سيؤدي حتماً لتوسيع إطار الصراع ما قد يدفع القيادة الإيرانية للاصطفاف إلى جانب سورية ويضعها في دائرة الاشتباك المباشر لجانب الجيش العربي السوري ضد العدوان التركي، وهو ما يحقق المصلحة الأميركية في إحداث فوضى إقليمية تزيد من تأزم المنطقة يضعف أطرافها.
4- التوقيت السياسي الذي اعتبرته إيران مناسباً ويشكل فرصة نادرة قد لا تتكرر لوضع نواة مصالحة سورية- تركية تبدأ بتخفيض وتيرة التصعيد وتنتهي بإعادة العلاقات، ولاسيما في ظل المتغيرات والتطورات الداخلية التركية المتمثلة بتراجع شعبية رئيس النظام التركي رجب أردوغان وفقدان حزبه «التنمية والعدالة» جزءاً لا يستهان به من الحاضنة والتأييد الشعبي قبل أقل من عام على سباق الانتخابات العامة التركية، فضلاً على عدم استقرار الوضع الاقتصادي وضبابية العلاقات الروسية التركية على أثر الموقف من الأزمة الأوكرانية وانعكاس طبيعة هذا الصراع على مواقف واصطفافات القوى الدولية.
5- تمتع إيران بمكانة وعلاقات إيجابية مع كافة الأطراف، حيث تعتبر في محور واحد مع سورية في إطار الصراع مع الكيان الصهيوني ومكافحة الإرهاب، وتربطها علاقات اقتصادية متنامية مع تركيا، وفي الوقت ذاته حافظت إيران على قنوات حوار واتصال مباشرة وغير مباشرة مع ميلشيات «قسد».
عقد الآمال على الوصول لمخرجات فعلية لمبادرة الوساطة الإيرانية ليس بالمنطق الصحيح ويحيطها مجموعة من التحديات التي قد تعيق تطبيقها الواقعي أو تقف أمام استكماله:
على الصعيد التركي ورغم بعض الإشارات الإيجابية التي بادر بها المسؤولون الأتراك مؤخراً بشكل مباشر أو عبر وسائل الإعلام المقربة من هذا النظام، إلا أنها مازالت تشترط كي تعيد علاقاتها مع سورية وإجراء مصالحة معها بشرط أساسي يكمن في إحداث تغيير سياسي شامل استناداً لبيان جنيف 1 لعام 2012، وهو ما أشار له موقع «TGRT HABER» نقلاً عن موقع وزارة الخارجية التركي في تحليل لسياسات تركيا تجاه الدول الإقليمية بما فيها سورية، فضلاً عن أن النظام التركي مازال يوظف ملف اللاجئين ويستغلهم لتحقيق مصالح سلطوية تخدم النخبة المتسلطة على الحكم في تركيا، التي مازالت تغدق السلاح على التنظيمات المسلحة وتسعى لاستمرار تعويم ما يعرف بـ«هيئة تحرير الشام» أي «جبهة النصرة» سابقاً ومتزعمها أبو محمد الجولاني سياسياً وحصوله على مقومات عسكرية واقتصادية.
أما على صعيد موقف الدولة السورية التي لا تمانع من تصحيح مسارات الدول تجاهها، فإنها تعبر وبشكل لا لبس فيه ومن دون أي تنازل عن مطالبها المتمثلة بانسحاب القوات التركية من سورية وإغلاق الحدود أمام المجموعات المسلحة، كما أنها مازالت غير واثقة من نيات تركيا، وهو ما عبر عنه صراحةً الرئيس بشار الأسد في أثناء استقباله وزير الخارجية الإيراني، بقوله: «الادعاءات التركية باطلة ومضللة ولا علاقة لها بالواقع وتنتهك ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي وروابط حسن الجوار التي يفترض أنها تربط بين البلدين الجارين»، وقد يكون هذا التصريح رداً على شروط أو تعديلات تحاول تركيا فرضها على الدولة السورية، وهو ما دفع النظام التركي لاستهداف نقطة عسكرية للجيش السوري في ريف حلب مؤخراً.
بينما يتمثل التحدي الثالث والأبرز في موقف الولايات المتحدة الأميركية الرافض لأي تسوية من شأنها دفع الحل في مسار الأزمة السورية بشكل لا يتناسب مع المصلحة الأميركية ويمنح سورية وحلفاءها مكاسب جديدة سياسياً وعسكرياً.
أما التحدي الرابع فيتمثل في موقف ميليشيات «قسد» التي مازالت تنصاع للتوجهات الإستراتيجية الأميركية وتعلق آمالها وأوهامها على وعود واشنطن، فعلى الرغم من حصول اتفاق أولي بين ميليشيا «قسد» والحكومة الشرعية لدخول بعض قوات الجيش العربي السوري للمناطق الحدودية بهدف التصدي لأي عدوان تركي محتمل، غير أن هذا الاتفاق هو اتفاق فرضته ضرورة الموقف، لذلك لا يمكن البناء عليه في ظل انصياع «قسد» للتوجهات الأميركية وانقسام تياراتها فيما يتعلق بالعلاقة مع الحكومة السورية وعدم مصداقية التزاماتها التي نقضتها سابقاً في منبج وعفرين وغيرها.
الوساطة الإيرانية الساعية نحو تهدئة جبهات المنطقة والحؤول دون حصول صدام مباشر بين سورية وتركيا نظراً لما قد يخلفه ذلك من تداعيات بما في ذلك استغلال الناتو ذلك لتوسيع دائرة الاشتباك مع روسيا، هي محاطة بحقل من الألغام القابلة للانفجار في أي لحظة، لذلك قد يكون توجه طهران بداية إيجاد تهدئة يتطلب تنسيقاً واجتماعات أمنية بين الجانبين قد تستضيفها على أراضيها بما يمهد الطريق أمام تفعيل اتفاقية أضنة.