قبل أن يغادر الولايات المتحدة متجهاً إلى الشرق الأوسط، نشر الرئيس الأميركي جو بايدن مقال رأي في «الواشنطن بوست» بتاريخ 9 تموز الجاري تحت عنوان «السؤال: لماذا أنا ذاهب إلى السعودية؟» وأجاب بقوله: «لأفتح فصلاً جديداً وواعداً للانخراط الأميركي هناك ولخدمة مصالح أميركية مهمة».
ما علينا اليوم أن نقرأه بعد أن شاهدنا وتابعنا فصول الزيارة من الكيان الغاصب و«إعلان القدس» بين هذا الكيان وبين الولايات المتحدة، إلى اجتماع بايدن بزعماء تسع دول عربية بعد أن أضاف إلى مجلس التعاون الخليجي في هذا الاجتماع مصر والأردن والعراق، وأن نحلّل بموضوعية وهدوء ماذا تحقق خلال هذه الزيارة وماذا سوف يتحقق كنتائج لها في القادم من الأيام ولمصلحة من؟
«وثيقة القدس» أو «اتفاق القدس» بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة كان خطيراً بالفعل على مستقبل المنطقة وبالتحديد على هوية هذه المنطقة، واتخذ هذا الاتفاق ما سموه بالخطر النووي الإيراني ذريعة ليس فقط لتهديد إيران خلال مسار المفاوضات معها الذي يُعتبر قائماً، وإنما لتحويل الكيان الغاصب إلى شريك إستراتيجي «والالتزام الدائم للولايات المتحدة بأمن إسرائيل والحفاظ على تفوقها العسكري النوعي على العرب والحفاظ على قدرة إسرائيل على ردع أعدائها وتعزيز قدراتها للدفاع عن نفسها ضد أي تهديد أو مجموعة من التهديدات»، وأن «هذه الالتزامات مقدسة من الحزبين وهي التزامات إستراتيجية ذات أهمية حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة نفسها»، وينص الاتفاق على تقديم الولايات المتحدة 38 مليار دولار من المساعدات العسكرية لإسرائيل على مدى عشر سنوات.
بعد هذا الكلام الحاسم والفاصل الذي لا يدعم فقط إسرائيل في وجه الفلسطينيين وإنما في وجه جميع من يعاديها في المنطقة، وهي تعتبر كل العرب تهديداً وجودياً لكيان الاحتلال سواء أطبّعوا معها أم لم يطبعوا، والاتفاق موجّه ضد أي تهديد أو مجموعة من التهديدات يحددها الكيان نفسه، ما هي قيمة تصريح بايدن في الضفة: «إن هدف حل الدولتين قد يكون بعيد المنال، لكن نحن نستشعر الحزن الذي يشعر به الشعب الفلسطيني»، وكيف يمكن ترجمة جملته أنه سوف يستمر بالعمل لجمع الفلسطينيين والإسرائيليين بعد أن قرّروا أن كل ما تقوم به إسرائيل ضمن القيم المشتركة والروابط غير القابلة للكسر بين البلدين»؟ أي إن الولايات المتحدة نقلت الكيان إلى مرحلة أخرى في المنطقة، مرحلة اعتبرت بها هذا الكيان ممثلاً للأمن القومي الأميركي وتسانده في تفوقه العسكري على كل من يسكن هذه المنطقة إذا تجرّأ على رفض أي صفة أو عمل يقوم به هذا الكيان.
كما أشار الرئيس بايدن في مقاله المذكور أنه سيكون أول رئيس للولايات المتحدة يغادر من القدس ليهبط في جدّة وأن هذا أمر مهم، وتلاه إعلان المملكة السعودية عن فتح أجوائها لكل شركات الطيران، وهنا نلاحظ أن اللغة التي تمّ استخدامها توارب للتعبير عن فتح الأجواء السعودية والخليجية أمام الطائرات الإسرائيلية، وقد عبر مسؤولون في إسرائيل عن المسافات التي سوف تختصرها رحلاتهم وتخفيض تكلفة الطيران على مستخدمي طيرانهم، أي إنه تطور مهم جداً للكيان الغاصب ولكن الاتفاق على ما يبدو هو عدم استخدام لغة قد تستفز مشاعر البعض، والمواربة نفسها تنطبق على نتائج اجتماع بايدن مع الدول العربية التسع في جدة والذي كان الهدف منه إقحام العراق أيضاً مع مصر والأردن وبقية دول الخليج في كل القرارات التي يتم اتخاذها سواء لمواجهة أعداء الكيان أم للتعاون التدريجي مع كيان الاحتلال من دون أن يتم استخدام عبارة «ناتو عربي» لأنهم ربما اكتشفوا أن الوقت مازال مبكراً لاستخدام هذه العبارة ولكن العمل جارٍ وبشدة لإرساء الأسس لمثل هذا الناتو والذي من الواضح أن إسرائيل ممثلة للولايات المتحدة سوف تقود هذا الحلف في المستقبل، أما الكلام عن حل الدولتين والحقوق الفلسطينية في مثل هذه الأجواء ووفق هذه الخطط، فهو الغطاء اللازم لتمرير جرعات مسمومة لا يمكن لعقل أي عربي يعتزّ بعروبته ويؤمن بعروبة فلسطين، أن يستسيغها أو يتمكن من اجتراعها، والملفت أن الولايات المتحدة زادت من دعمها لكيان الاحتلال فيما نشهد ما يمكن تسميته بتخلّي العرب تماماً عن شعبهم في فلسطين، واللغة الهادئة نفسها تمّ استخدامها للتعبير عن الإنجاز الذي حققه بايدن في السعودية والذي هو إنجاز حيوي لرئاسته وللانتخابات النصفية القادمة في الولايات المتحدة ألا وهو زيادة إنتاج النفط الذي سوف ينجم عنه هبوط في أسعار الطاقة، وهو الموضوع الملح بالنسبة للولايات المتحدة والغرب بعد ارتفاع أسعار الطاقة، إلى الضعف تقريباً نتيجة العلاقات الروسية الغربية في هذا الموضوع بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ما زاد من الإيرادات النفطية للدول العربية النفطية، وهذا هو الإنجاز السريع المهم الذي ابتغى بايدن تحقيقه في هذه الرحلة، وقد تحقق، وسيبدأ الضخ خلال أسبوعين وبذلك يتخلّى العرب أيضاً عن مواردهم لمصلحة الاقتصادات الغربية، أما القول إن هذه الرحلة قد كسرت عزلة السعودية فإن هذا ما يحاول الآخرون إيهام العرب بأنهم معزولون وأنهم بحاجة إلى مثل هذه اللقاءات لضمان أمنهم والاعتراف بمشروعيتهم في الوقت الذي يمتلكون به حوامل الطاقة والتي مازالت تشكل عصب الحياة الغربية من الصناعة إلى الزراعة في الغرب برمته، فمن هو الذي بحاجة لأن تتحقق مصالحه ومن هو الذي يعاني من أضرار الوضع الراهن وبحاجة إلى إنقاذ؟! أليس غريباً أن يتحول الغريق إلى منقِذ وأن يتوهم المنقِذ أنه هو الغريق وبحاجة إلى من ينقذه؟
في ضوء كل ما تحقق لكيان الاحتلال الغاصب ولإدارة بايدن وخططه بضرورة تخفيض أسعار الوقود في الغرب مع إلحاح تصريحاتهم على السير في مخططات أبراهام والتي تشكل خطورة بالغة على هوية الأمة العربية ككل يطرح السؤال نفسه: ما الذي حقّقه العرب من هذا اللقاء سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية أم حتى بالنسبة للحضور العربي في المنطقة في وجه «إعلان القدس» الذي سلّم مفاتيح العمل في المنطقة وتمثيل مصالح الولايات المتحدة للكيان الصهيوني؟ وهل تمكنت الدول العربية التسع من وضع بند واحد على أجندة هذا الاجتماع إذا كان هذا البند لا يصبّ في مصلحة كل ما نص عليه «إعلان القدس» وكل الرؤية المستقبلية لهذا الإعلان ليس من تكريس وشرعنة احتلال واغتصاب لفلسطين فقط وإنما من تخطيط مستقبلي للتحكم بتوجهات ومصير دول هذه المنطقة من المضائق البحرية: مضيق هرمز وباب المندب إلى جزيرة تيران وصنافير وفق التزامات واتفاقات وتعهدات لم يعلن عن صميمها بعد؟
يبدو أن الاتفاق قد نصّ كتابة أو شفاهة على التخفيف من اللغة المعلنة اليوم والسير قدماً في العمل ضمن هذا التوجه الذي تمّ التخطيط له ووضع تفاصيله ووصل جاهزاً ومحمولاً مع القادمين من القدس المحتلة إلى جدة لتتم الموافقة عليه ولنكتشف ما خفي من مندرجاته في القادم من الأيام أو الأشهر أو السنوات.
«إعلان القدس» واجتماع جدة وما كتب في البيانات وما لم يكتب بين السطور، ستكون له تداعياته الكارثية على سيادة الدول العربية وعلى استقلال الإرادة العربية وعلى مستقبل العرب ككل ما لم تتم مواجهة هذا التخطيط الخطير بتخطيط مقابل يقرأ بموضوعية ودقة حجم التهديدات الكارثية القادمة ويعدّ العدة الحكيمة لمواجهتها.