ثقافة وفن

نبوءة الشاعر والخوف من القادم … يوسف الخطيب: مذاق النصر في قاموسك العربي فاكهة محرمة

| إسماعيل مروة

يحسن بالإنسان أن يلجأ إلى الأدب شعراً وقصة ورواية ليزود نفسه بطاقة جديدة تساعده على المضي في القادم الذي لا يعرف طريقاً له، وحين يقرأ لعبد الرحمن منيف روايته «مدن الملح» يعرف البراعة التي صورت لنا الماضي والمستقبل، ولم نفلح في القراءة، والتقطت يدي قشة مما يناثر في بيدر شعر الراحل الكبير يوسف الخطيب الذي لم يأخذ حقه من العناية والدرس، مع أنه حين أسس دار فلسطين أنصف كثيرين، وأعطى كثيرين حقوقهم وفوق الحقوق، واستوقفتني قصيدة لم أتجاوزها (لمن تلد النساء)

أقول لكم ..
إذا كان الإمام بلا وضوء
لن تجوز صلاتها الأمة
أقول لكم..
تبارك شعبنا العربي، بعد الله،
غير جبينه من يحمل الوصمة
أقول لكم..
سدىَ شرّقت في لجج السراب
وباطلاً غربت في تيه العذاب
وكل ما أدركت أن صنعت بوصلتي
وراء خرافة القمة

أقوال عديدة يرفضها الشاعر، في حينه، للواقع العربي فكرياً وسياسياً، وربما كان هذا الرفض مستهجناً منه، لكن عين المبدع جعلته يرى وإحساسه وضعه أمام مشهدية قادمة يتخيلها، وهذا ما كان وإن وقف كثيرون في وجه المبدع وعدّوه متشائماً إلا أن الكلمة تبقى قاسية.. هي الحالة التي يرصدها يوسف الخطيب بحدّ سكين القصيدة، وذلك قبل زمن بعيد، وكانت هذه القراءة آنذاك مستهجنة، فالواقع العربي لم يكن بهذا التردي، وربما وصف بعضهم أصحاب هذا التيار الناقد بالتشاؤم، واليوم وبعد عقود ندرك معنى استشراف الأديب المبدع، وفي القصيدة نفسها، في مقطع آخر يقول:

مذاق النصر في قاموسك العربي
فاكهة محرمة
وطعم القهر كبريت وملح
أتهدم القبور على القبور
ويمحي بأديم هذي الأرض آدمها
وما ينهدّ للطاغوت صرح ؟
ويطلع بَعْدُ أكثر من مسيلمة
وتلتمع الدمى
ويعمّ هذا الكون قبحُ
لمن تلد النساء إذن؟
إذا لم يغز ليل القدس قديس
ولم ينجز على الطاغوت رمح؟!

لنا أن نتخيل الاستقبال أو التفاعل مع هذا النص القاسي الذي يستعيد مفهوم التحريم الديني ليسقطه على الأمنيات، فالنصر ومذاقه فاكهة محرمة على الإنسان العربي كما رأى الشاعر، كأن الهزيمة أخذت معنى مقدساً من آدم وفاكهته المحرمة ليحل الخذلان محل النصر، وهو يعود إلى المفهوم الديني في اقتباس موفق عندما يتحدث عن آدم الأرض، ومن السيرة النبوية والإسلامية وحروب الردة وظهور مسيلمة الكذاب، يرى بمراقبته وعين بصيرته أن الأرض تحفل بأكثر من مسيلمة الكذاب، وها هم يظهرون تباعاً، وحده النصر على المرتدين يأخذ بشارة للغد في سروة القدس أو شجرتها التي تصل أبواب السماء كما سنرى بشارة على السمو الرفعة..

ويختم هذه القصيدة بمقطعها الثالث:

ولكن صغت نبض الحرف
وهج السيف
واستبقيت لي عمراً وراء العمر
إِنْ وغدٌ سيقتلني!
وأقسم بعد، يا نفط العروبة
إن هامة سروة بالقدس
أقرب عند أبواب السماء
فما ابتغاء شفاعة القطران، بالوطن؟!

القتل، النفط، القدس، المساومة، مفردات قاسية استعملها الشعراء والأدباء، ولعلّ نزار قباني هو أكثر من استعملها وآلم، لأنه كان واضحاً ومباشراً، وقالها في وجوه القوم، ولم يكن وحيداً في ذلك، فهذا الشاعر يوسف الخطيب يقدم صورة لم تكن عندما رسمها واردة أو واضحة، لكنها اليوم تظهر للعلن عندما نرى التضحية بالقدس وما تعنيه لكل من هم تحدروا منها أو من صلب عقيدتها، وتبلغ الصورة ذروتها عندما يستبدل النفط بالقطران مقابل سروة، مقابل نبتة وشجرة في القدس.. لكنه بالانتماء يحذر من مغبة التخلي عن القضايا من أجل المال والسروة، فإن كانت غاية هؤلاء هي السماء فإن الطريق إلى السماء أقرب من خلال سروة تصل أبواب السماء فمن أراد السماء هذا طريقها، وليس طريقها بالقطران ولونه وبشاعته.

ما بين إمام بلا وضوء تبدأ القصيدة، ومذاق العصر فاكهة محرمة قلب القصيدة، وسروة في القدس مقابل القطران، تتحدد معالم القضية عند الشاعر يوسف الخطيب منذ أمد بعيد، اليوم تحسن قراءته لنعرف حقيقة ما قاله الملهمون ذات يوم وهم يقرؤون الغد، ولنعرف أن هؤلاء هم الذين يقدرون على وضع خطوط الرفض والنهوض من دون سواهم.

نبوءة الأدب

اليوم نعود لنقرأ المتنبي ونأخذ من حكمه، وهو الذي مات مقتولاً على أيدي اللصوص، ورحنا نبحث عمن قتله، وأغلبنا ذهب إلى أن شعره هو الذي قتله! وحين تحدث نزار قباني عن المهرولين انبرى كثيرون بينهم نجيب محفوظ للهجوم عليه، وعندما أعلن وفاة العرب وصفوه بالمتشائم.. وانتظر الجميع سنوات وعقوداً ليدركوا أن الذي وصفه نزار كان حقيقة يراها هو ولم يروها، أشار إليهم ولم يفعلوا! ترى لو قرأنا بعقل هل كان من الممكن أن نواجه خططاً أعدت لبلداننا ومنطقتنا؟!

في العالم الواعي يكون كلام الملهمين نقطة ارتكاز يبنى عليها، ونحن نشيطن الملهمين ونكيل لهم الاتهامات لتسفيههم.

عندما بدأت قراءة غير معينة في ديوان يوسف الخطيب، بدأت بهذه القصيدة، ولكن ما فيها لم يسمح لي بأن أغادرها، وأنا أتابع ما فيها من فكر وصور، ما يثبت أن الشعر يمكن أن يكون حاملاً فكرياً إضافة إلى أنه هو الحامل الجمالي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن