في 29 حزيران الماضي كان نائب رئيس حزب «المحافظين» البريطاني كربس بينشر، يقضي سهرته في أحد نوادي العاصمة لندن، وتشير تقارير إلى أن بينشر كان قد أسرف في الشراب في تلك السهرة التي جاوره فيها شابان قام بالتحرش بهما، ليسري الفعل كما النار في الهشيم في أروقة السياسة البريطانية وصولاً إلى «10 داوننغ ستريت» مقر إقامة رئيس الوزراء البريطاني، الذي لم يجد تسويغاً لفعلة نائبه سوى القول إنه لم يكن يعرف الكثير عن سمعة هذا الأخير عندما قام بتعيينه بمنصب نائب رئيس الحزب، لكن ذلك لم يؤد، كما كان مأمولاً، لتحجيم كرة النار التي راحت تتدحرج على وقع معطيات تراكمت، وأخرى استجدت بفعل التداعيات التي أفرزتها سهرة 29 حزيران.
لم تكن الحادثة لتحظى بما حظيت به بعد أن شكلت «النقطة» التي فرضت انسكاب الكأس، لولا التراكمات التي سبقتها، وجميعها كانت صادرة عن «أوعية» تتمتع بقدرة كبيرة على «السكب» بدرجة لا تحتملها سعة «الكأس» المستهدفة، ومنها مثلاً، ما راج في الإعلام عن حفلات صاخبة كان ينظمها رئيس الوزراء بوريس جونسون في مكتبه في وقت كانت فيه البلاد تفرض حالة من العزلة بسبب جائحة «كورونا»، ثم إن أداء الحكومة، التي قادت المملكة لخروجها من الاتحاد الأوروبي، كان مرتبكاً ولا يسير وفق الرتم المرسوم له، إذ لطالما كان تسويق «البريكست» يقوم على أساس قوامه أن الأخيرة سوف تعيد «أمجاد» البريطانيين بعد تخلصهم من الحمولات التي خلفتها الشراكة الأوروبية كما قال منظروها، وفي ذاك الأداء كانت النتائج تشير إلى التسبب بأزمات دستورية مع «الملتحقين» بالكيان مثل إسكوتلندا وإيرلندا الشمالية، ناهيك عن أنه، أي ذاك الأداء، كان قد أخرج إلى السطح حالة متفاقمة من الفساد الذي ظهر صارخاً في قطاع «المقربين» و«المحسوبين» من وعلى، رأس هرم السلطة الذي كان يمثله جونسون حتى وقت قريب.
لكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت قد تمثلت في السياسات التي انتهجتها حكومة جونسون ما بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا شهر شباط المنصرم، فلندن عملت في أتون اندلاع النار على حمل راية السعار المحموم في مواجهة الدور الروسي الذي أراد، من حيث النتيجة، ردم «الثغور» التي ما انفكت تهدد أمنه القومي في المحيط، ولندن صاغت، بدرجة كبيرة، لائحة العقوبات الست التي فرضها الغرب على روسيا حتى الآن، وما زاد الطين بلة هو أن تلك العقوبات كانت قد ارتدت وبالاً على عموم الاتحاد الأوروبي، لكنها ارتدت، على وجه الخصوص، على بريطانيا بدرجة أعتى من الوبال السابق الذكر، وفي السياق كان الخيار الوحيد الذي يلحظه جونسون هو الهروب إلى الأمام، ليذهب نحو قرار تقديم ثلاثة مليارات من الدولارات لأوكرانيا كدفعة على الحساب في سياق حمل الراية، وهو ارتأى أن سقوطها من يده سوف يقود حتماً إلى سقوطه بالدرجة الأولى قبل أي شيء آخر، كان ذلك الهروب التصاعدي محفوفاً بالمخاطر في ظل مناخات التقشف الاقتصادي الذي أعلنته المملكة في سياق الانكماش الذي عانت منه الاقتصادات الأوروبية عموماً، وكذا في ظل إعلان البنك المركزي عن تسجيل أعلى مستوى للتضخم في البلاد منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي أيام حكم رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر التي تعتبر الأشهر ممن خرج من حزب «المحافظين».
الشاهد هو أن كل المعطيات السابقة لم تدفع بجونسون للتفكير في الضغط على «دواسة الفرامل»، بل لم تدفعه إلى تخفيض السرعة، الفعل الذي يلجأ إليه السائقون عادة عند المنعطفات، فيما كان الخيار الذي ذهب إليه في التعاطي مع التراكمات السابقة هو «مسارعة الخطا» في سياق كان يبدو مجهولاً لكنه كان بالنسبة إليه هو الوحيد الذي يمكن الركون إليه، ولربما اعتقد، شأنه في ذلك شأن كل الساسة المتخرجين من مدرسة «الديمقراطية الغربية» أن التجييش الداخلي ضد عدو خارجي، هو فعل من شأنه أن يسمح باستعادة اللحمة في نسيج وإن بدت بعض أجزائه متهتكة، بل مهما بلغ التهتك فيه سواء أكان في الأطراف أم في «القطبات» الأولى التي شكلت نواة ذلك النسيج، ولربما شكل هذا الاعتقاد بداية للدخول في الحلقة المفرغة التي وجد جونسون نفسه يدور فيها، وهي التي أفضت إلى سقوطه يوم 7 تموز الجاري.
في مطلق الأحوال يمكن الجزم بأن حكومة جونسون كانت قد مارست، منذ 24 شباط الماضي فصاعداً، سياسات من النوع الذي يرخي بحمولات هي فوق القدرات التي تتحكم بها، أما «حمل الراية» الذي يمنح الفاعل عادة فرصة الحصول على قدرات إضافية، فالنجاح فيه يظل رهين اعتبارات عديدة لها علاقة بالكاريزما الشخصية ومدى المهارة في إدارة «البيادق» ثم مدى القدرة «اللحظية» على تشكيل معالم لوحة يفهم منها النتائج المستحصلة من تلك الإدارة، ويفهم منها أيضاً معالم اللوحة التي يمكن رسمها غداً أو بعد غد، ولا يكفي بحال من الأحوال للنجاح في مهمة من ذلك النوع أن يحاول القائم بالفعل الظهور بمظهر رجل «شجاع».