من دفتر الوطن

الثقافة شرقاً

| حسن م. يوسف

أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960: «منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة»، إلا أن الحالة الاستعمارية ظلت مستمرة بأشكال مختلفة. في سبعينيات القرن الماضي صاغ المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين مصطلح المركزية الأوروبية أو المركزية الغربية، ويقصد به حالة التحيز للحضارة الغربية بوصفها الأكثر تقدماً والأكثر تأثيراً بين حضارات العالم. صحيح أن هذا المصطلح لا يزيد عمره على نصف قرن إلا أنه يعبر عن إحساس قديم لدى الغربيين بتفوق عنصرهم الأبيض على بقية شعوب العالم. ففي عام 1741 كتب المؤلف الموسوعي الألماني يوهان هاينريش زيدلر يقول: «على الرغم من أن أوروبا هي أصغر القارات… إلا أنها لأسباب مختلفة في موقف يضعها قبل كل الآخرين… فسكانها لديهم عادات ممتازة، وهم مهذبون ومثقفون في كل من العلوم والحِرَف».

والحقيقة أن المركزية الغربية لم تضعف على الرغم من ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بل إن ثورة الاتصالات أسهمت في فرض معايير الجمال الغربية على مستوى العالم. وهذا يتجلى بوضوح في هيمنة العرق الأبيض على إعلانات شركات مواد التجميل حتى في شرق آسيا. وتؤكد دراسات الجمعية الدولية لجراحة التجميل أن مواطني كوريا الجنوبية هم الأكثر تأثراً بمعايير الجمال الغربية. فحصة المواطن الكوري من عمليات التجميل تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم. ويلجأ كثير من الآباء الكوريين لإجراء عملية استئصال عضلة من تحت ألسنة أبنائهم لأن هذا يساعدهم على نطق اللغة الإنجليزية من دون لكنة! كما تجني شركات العقاقير مليارات الدولارات من خلال بيع مراهم تفتيح البشرة لمسايرة معايير الجمال الغربي رغم الآثار السلبية لتلك المراهم.

والحال في الثقافة أكثر خطورة وشمولاً. قبل الشروع في كتابة هذا المقال صدمت إذ تبين لي أنني أعرف عن السينما الأميركية أكثر من كل ما أعرفه عن أكبر ثلاث دول إسلامية في العالم وهي إندونيسيا وباكستان وبانغلادش، التي يبلغ مجموع سكانها أكثر من ضعفي عدد سكان أميركا حسب إحصاء 2020! والمفجع في الأمر هو أن جل ما أعرفه عن هذه البلدان وصلني عن طريق وسائل الإعلام الغربية!

قبل أيام أرسل لي أحد الأصدقاء ترجمة لنص بقلم الأديب الباكستاني أديب ميرزا (1914- 1999) عن كتابه «المصباح» وقد صدمت لأنه لم يسبق لي أن سمعت بهذا الأديب الذي فازت مسرحياته وقصصه بالعديد من الجوائز! ولد أديب ميرزا في لاهور التي كانت جزءاً من الهند آنذاك. وإليكم خلاصة قصته:

«في الستينيات ذهبت إلى دلهي للعمل… وفي أحد الأيام، فتشتُ جيوبي، بعد نزولي من الحافلة؛ ففوجئت بأن أحدهم قد سرقني. كان كل ما في جيبي تسع روبيات، ورسالة لأمي، أقول فيها: «أمِّي! فُصلتُ من عملي، لا أستطيعُ أن أرسل إليك هذا الشهر المبلغ المعتاد».

كنت قد حملت الرسالة في جيبي طوال ثلاثة أيام على أمل أن أرسلها لاحقاً، صحيح أن الروبيات التسع لا تساوي شيئاً، لكنها بالنسبة لمن فصل من عمله وسُرق ماله تساوي أكثر من تسعمئة روبية. بعد أيام، وصلتني رسالة من أمي، تشكرني فيها قائلة: «وصلتني منك 50 روبية عبر حوالتك المالية، كم أنت رائع يا بُنيّ، ترسل لي المبلغ في وقته، ولا تتأخر بتاتاً».

عشت مشوشاً لبضعة أيام، وأنا أسأل نفسي: «مَنْ يا ترى أرسل هذا المبلغ لأمي»؟ وبعد بضعة أيام وصلتني رسالة أخرى مكتوبة بخط لا يكاد يُقرأ، يقول صاحبها: «أضفتُ إلى روبياتك التسع إحدى وأربعين روبية كنت قد جمعتها وأرسلتها حوالة مالية إلى أمك، فكرت في أمي وأمك، فقلت في نفسي: لماذا يجب أن تنام أمك جائعة… تحياتي، صاحبك الذي سرق محفظتك».. نعم يجب علينا أن نتوجه شرقاً، لا في مجال السياسة والاقتصاد وحسب، بل في مجال الثقافة أيضاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن