قبل انطلاق معركة تحرير ريف إدلب منذ أكثر من عامين، عُقدَ اجتماع بين رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك ورئيس مخابرات النظام التركي حقان فيدان بوساطةٍ ورعايةٍ روسية، يومها بدَت أجواء الاجتماع إيجابية للغاية سواء لجهةِ تقريب وجهات النظر السورية التركية حول الخطر الذي تمثلهُ الجماعات الإرهابية الموجودة في ريفي حلب وإدلب على أمن البلدين أم لجهةِ التزام التركي بتفاهماتهِ مع الجانب الروسي حول ما يُعرف باتفاق سوتشي التي لم ينفَّذ منه أي شيء، ما هي إلا أيام حتى انقلب الجانب التركي على كلّ التفاهمات التي تمت في هذا الاجتماع حيث بدأت المجموعات الإرهابية المدعومة من نظام أردوغان بمهاجمة نقاط الجيش العربي السوري في مناطق خفض التصعيد، لتتسع رقعة المواجهة بعدها لتصلَ حدَّ المعارك المباشرة بين الجيش العربي السوري وجيش الاحتلال التركي، انتهت باستعادة الجيش العربي السوري لمدنٍ مهمة كـ«معرةِ النعمان» و«خان شيخون» رغم دخول الجيش التركي يومها للمعركةِ بشكلٍ مباشر، فهل أن هذا الاستذكار قد يفيدنا اليوم في مقاربةِ ما جرى في قمةِ طهران الثلاثية التي انعقدت قبلَ أيام والتي ضمت كلاً من تركيا وإيران وروسيا؟!
منذ توالي وصول الصور المتعلقة بهذهِ القمةِ الثلاثية، قرأنا في وصفِ هذه القمة وأهميتها ما لم يكتبهُ مالك في الخمرة، الأغلبية العظمى كتبت بروح التفاؤل المفرط؛ بل وهناك من سماها «قمة سورية»!
هذا حقهم، لكنهم لم يشرحوا لنا مقوِّمات هذا التفاؤل والأسس التي بُني عليها لتكون القمة فعلياً دفعة نحو الأمام، سواء لجهةِ ردع النظام التركي عن تنفيذ تهديداتهِ بعداونٍ جديد، أم إلزامهِ بمغادرةِ الأراضي التي يحتلها وينفِّذ فيها سياسة تتريكٍ لم تعد خافية إلا على من لا يريد أن يرى بذريعةِ الغربال، كلٌّ أرادَ رؤية التفاؤل من جهةٍ ما، لكن «وردة لا تصنع حقلاً»، والفارق بين الوقائع والأمنيات لا يزال شاسعاً فكيف ذلك؟
أولاً: لم تأتِ تصريحات المشاركين ولا مداخلاتهم بأي جديد إن كان لجهةِ الوضع السوري أو حتى في آلية فهم العلاقة المشتركة بين هذهِ الدول ذات نفسها، إذ لا يمكن اعتبار الكلام الذي قالهُ المرشد الإيراني علي خامنئي بحضور رجب طيب أردوغان عن التمسك بسيادة الدولة السورية على أراضيها وما ستعنيهِ العملية العسكرية التركية في الشمال السوري ورفضهِ لها بأنها نقطة فصل في التحذير لأردوغان، وهل قالَ خامنئي يوماً غيرَ هذا الكلام منذ اندلاع الحرب؟ بل على العكس يبدو كلام المرشد هو تصويب غير مباشر للتصريحات السياسية الرسمية الإيرانية التي عبَّرت عن «تفهمها» لهكذا عملية، أما باقي التصريحات الرسمية الإيرانية فهي لم تخرج عن إطارها الدبلوماسي الذي يرى الجميع على مسافةٍ متساوية من الصراع، أما أردوغان المعني بالأمر فعادَ وكرَّرَ ذات الديباجة عن التزامهِ بوحدةِ الأراضي السورية، هذا التصريح هو تماماً كتصريحاتهِ التي يذكرنا فيها بتمسكهِ باستعادةِ القدس وتحرير فلسطين، هل فعلياً مازالَ هناك من يبني تحليلاً على تصريحٍ أو التزام أطلقهُ رجب طيب أردوغان؟!
ثانياً: بدا من خلالِ تحديدِ موعدٍ جديدٍ للقمة التي ستُعقد كموعدٍ أولي نهايةَ هذا العام بضيافةِ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التزام لدى الأطراف الثلاثة بتقييم النتائج التي وصلت إليها على الأرض، لكن عملياً ما الذي سيجري حتى نهاية هذا العام؟ ولكي تكون الفكرة أوضح، ما الذي تغيَّرَ منذ القمة الثلاثية ذاتها التي استضافتها أنقرة في العام 2019؟ ثم كيف يمكننا تقييم التزام النظام التركي من عدمهِ بعيداً عن عملياتِ التجميل الإعلامية التي يحاول كلَّ طرفٍ ضخها لإظهار نفسهِ كمن يمون على النظام التركي! هل سينسحب التركي من الأراضي المحتلة؟ هل سيوقف دعمه للتنظيمات الإرهابية ويتركها تواجه مصيرها أمام الجيش العربي السوري البطل؟ لماذا لا يرى البعض بأن دعم النظام التركي لهذهِ التنظيمات هي مسألة حياة أو موت، وخروجه من الشمال السوري يعني الموت البطيء لهذا النظام لأنه سيخسر الورقة الأهم التي يبتز بها الجميع بما فيهم الاتحاد الأوروبي؟ أما الحديث عن لجمِ أردوغان عن القيام بعمليةٍ جديدة لطردِ ميليشيا «قسد» وإقامة منطقة عازلة بعمق 30 كيلو متراً فمن الواضح بأن سبب امتناعهِ الجوهري عن هذه العملية إخفاقه بالحصول على وعود بعدم تدخل الجيش العربي السوري، بل على العكس فإن فتحَ باب التفاهمات بين دمشق و«قسد» هو أحد أهم عوامل إفشال هذا المخطط، أما السبب الثانوي لوقفهِ التفكير بهذهِ العملية، إخفاقه بانتزاعِ موافقةِ واشنطن لا أكثر ولا أقل، لأن واشنطن تدرك أن أي تساهلٍ مع هذه العملية سيدفع بـ«قسد» نحو حضن الوطن وهو ما لا تريده على الأقل في المرحلة الحالية.
ثالثاً: منذُ أن زارنا سيئ الذكر وزير الخارجية التركي حينها، أحمد داؤود اوغلو في بدايةِ هذه الحرب اللعينة وما حملهُ لنا من مطالب بمسمى «نصائح» لوقف كل ما يجري بما فيها إقحام الأخوان المجرمين بالعملية السياسية في سورية والحديث عن مأزق أردوغان الانتخابي الذي يدفعهُ لكلِّ هذا الفجور لم يتبدل، اليوم عادت هذهِ النغمة من جديد بأن أردوغان رضخَ في طهران لأنه بدأ يتحسس تراجعه انتخابياً قبلَ أقل من عام على موعد الانتخابات الرئاسية، هذا الربط الدائم والمتكرر يُشعرنا بأن المواطن السوري عليهِ أن يحمل روزنامة تواريخ الاستحقاقات الانتخابية في كل الدول المشاركة بالعدوان وكأنَّ البدائل أفضل، الولايات المتحدة وفرنسا غيّرا ثلاثة رؤساء ما الذي تغير؟ مع التأكيد هنا على أن أفضلهم دونالد ترامب رغم كل قذارته هو الأكثر كُرهاً في منطقتنا، لكن يكفيهِ فخراً بأنه عرَّى الولايات المتحدة على حقيقتها، ثم ما الذي ستضيفهُ هذه الانتخابات؟ على العكس تماماً فإنَّها قد تدفعه إلى المزيد من الحماقة لإعادة ضخ الدماء بالخطابات القومية والمذهبية التي تضمن لهُ استعادةَ ما فقده من شعبية، هذا يعني بأن من يعوِّل على الانتخابات لإحداثِ خرقٍ ما فإنه قد ينتظر لعقدٍ آخرَ من الزمن لا أكثر، أردوغان لن يسقط بالانتخابات لأنه ببساطة صورة مصغرَّة عن أغلبية الشعب التركي مدعوماً بأجهزة قمعية، لن يسقط أردوغان إلا بانقلابٍ أو اغتيال، ثم ما الذي سيجري بعد الانتخابات مثلاً؛ هل يظن البعض بأن كل ما قام به رجب طيب أردوغان هو قرار تركي صرف؟!
خامساً، هناك من تعاطى مع هذهِ القمة على أنها رد عملي على قمة جدة التي ضمت بالإضافة إلى دولِ الخليج العربي كلاً من مصر والأردن والعراق والولايات المتحدة الأميركية، بل وبشر بأن هناك ولادة لمحور مقابل محور، لا نعلم عن أي مَحاورٍ يتحدث من يروجون لهذه الفكرة، أليسوا هؤلاء ذاتهم من كانوا ينظرون لرجب طيب أردوغان على أنه محرر للقدس؟! ثم إن استثنينا كلمة أمير قطر في قمة جدة فلم تخرج أي كلمة من أي زعيم عربي تعارِض السيادة السورية أو تختلف على الحل السياسي، مع العلم أن الكثير من المواقع والقنوات الإعلامية تحاول دائماً التعمية على المواقف القطرية، فبماذا اختلفَ الخطاب بين القمتين؟
حقيقة لا نعلم حتى الآن ما هو وجه الربط بين القمتين وكيف جاءت إحداهما كرد على الثانية مع التأكيد هنا على فكرةِ أن كل الدول العربية التي اجتمعت في قمةِ جدة تتمتع بأفضلِ العلاقات مع روسيا حتى إن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، هاتف بوتين ليبحث معه تحديداً أوضاع سوق النفط، بل إن «فورين بوليسي» تحدثت عما هو أبعد من ذلك عندما اعتبرت أن موسكو لديها أهداف مشتركة مع كل شركاء واشنطن في المنطقة حول إنتاج النفط وتسعيره، هذا عدا الحديث عن عودة التواصل بين إيران والسعودية، أي أن القمتين بمنحنيين متباعدين ولا يمكن ربط أحدهما بالآخر، إلا أن كان هناك من يريد إقناعنا بأن أردوغان باتَ طرفاً فيما يسمونه «محور المقاومة»!
في الختام: يُقال إن هناك خيطاً صغيراً بين التشاؤم والواقعية، لكن هذهِ المقاربة تبقى أسهل من الوقوع في فخ المزج بين أحلام اليقظة والتفاؤل المفرط، قمة طهران لم تأتِ بجديد هي قمة كما غيرها من القمم ستنتهي مفاعليها بعد ساعات عندما تبدأ الماكينات الإعلامية لكلِّ طرف بالتسويق للحدث القادم لا أكثر، وكل من يرى عكسَ ذلك سندعوه للانتظار حتى نهاية العام لنرى النتائجَ على الأرض، مع التأكيد هنا على فكرةِ أن الشعوب التي قاومت وصمدت قد ملت الانتظار، ربما لم تخذلها همتها وقدرتها على الصمود بقدرِ ما يخذلها بيعَ الوهم على أنه انتصار!