يشير البيان الختامي الذي صدر في أعقاب انتهاء أعمال القمة الروسية الإيرانية التركية في طهران يوم 19 من شهر تموز الجاري إلى معطيات عدة تبدو بارزة ما بين سطوره، وأخرى تحتمل التأويل والاجتهاد فيها، وربما كانت هذي الأخيرة، التي بدت مقصودة بهدف إعطاء الوقت لرأب المواقف وتكشف النهائي منها، هي الأكثر أهمية من سابقتها، لكن كلا الأمرين، المعطيات البارزة ما بين السطور وتلك التي تحتمل التأويل، تدفع باتجاه رسم صورة مفادها هو إرجاء العملية العسكرية التركية المزعومة في الشمال السوري التي ورد ذكرها على لسان الرئيس التركي للمرة الأولى في 23 أيار الماضي، لمصلحة ترك الباب موارباً أمام حلول تسوية تحتاج لفتح مزيد من قنوات التواصل، وربما تحتاج أيضاً إلى نقل تلك الأقنية من «الأمني» إلى «السياسي» على صعوبته، لكن الثابت أن ذلك الإرجاء هو فعل «مؤقت»، بمعنى أنه لن يستمر طويلاً، وقد ينكسر في أي لحظة إذا ما برزت معطيات جديدة أولاً، وإذا ما كان التعاطي مع «الذريعة» التي تتخذها أنقرة مبرراً لشن عمل عسكري في مناطق الشمال السوري كسابقاته التي حدثت ما بعد اتفاق «سوتشي» التركي الروسي في 5 آذار من العام 2020.
قضى الاتفاق الأخير بانسحاب مقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية- قسد» لمسافة تزيد على 30 كم عن الحدود السورية التركية، على أن يحكم الجيش السوري قبضته على تلك المنطقة وصولاً إلى الشريط الحدودي، وما جرى هو أن «قسد» كانت قد ذهبت إلى تسليم بعض نقاط تمركزها الواقعة في تلك المنطقة للجيش السوري، إلا أن تلك العملية كانت «شكلية» أقله في الإطار العام لها وفي النتائج التي خلصت إليها، والثابت هو أن ذلك كان نوعاً من المراوغة «القسدية» وهي تهدف، مسنودة بدعم أميركي، إلى الظهور بمظهر من يريد نزع فتيل الانفجار، لكن في الآن ذاته المحافظة على خرائط السيطرة من دون حدوث تعديل جوهري عليها، والثابت أيضاً هو أن «قسد» لا تزال تنتهج السياسة عينها حتى الآن على الرغم من حدوث حالات لانتشار الجيش السوري في العديد من المناطق التي تسيطر عليها، وهي، أي قسد، لا تزال تتمسك بالإبقاء على «المجالس العسكرية» في منطقة الـ30 كم بذريعة أن أعضاءها هم «من سكان المنطقة»، وكذا لا تزال تمانع في دخول الجيش السوري إلى مركز مدينة منبج وإلى أي من مراكز المدن الحدودية الرئيسية.
دمشق التي عبرت عن ارتياحها لمخرجات «قمة طهران» لم تنس تذكير «قسد» أن الكرة الآن باتت في ملعبها، وفي إشارة صريحة لذلك التذكير سيعلن وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد من طهران أن «على من يرتبطون بالأميركيين عدم إعطاء تركيا أي غطاء لتبرير غزوها للأراضي السورية»، ومن الراجح أن دمشق سوف تذهب إلى أبعد من التذكير في المرحلة القادمة عبر الاستثمار في مخرجات «طهران» للوصول إلى وضع مستدام كفيل بنزع الذريعة من بين يدي النظام التركي الذي يتعاطى معها، أي مع تلك الذريعة، كعامل احتياج يمكن من خلاله العبور نحو شد عصب الجبهة الداخلية وصولاً إلى إنتاج توازنات جديدة تعطيه دفعة «دسمة» للخروج من «اختناق» حزيران القادم، وفي المؤشرات تبدو «قسد» وكأن لا جديد لديها تقدمه في سياق التعاطي مع أزمة ستكون، فيما لو اندلعت، هي الأخطر على الجغرافيا السورية من بين أربع سبقنها، فالنهج هو ذاته الذي كان يقوم على المراوغة بغية كسب الوقت لعل القادم يجيء بالأفضل، فها هو «المجلس الوطني الكردي»، المعارض لـ«قسد»، يقول في بيان له أصدره 20 تموز الجاري أن «الولايات المتحدة حذرت «قسد» من تقاربها مع الدولة السورية وحليفتها إيران»، وأضاف البيان: إن الأميركيين قد أبلغوا الأولى، أي «قسد»، بأنه في «حال استمر هذا التقارب فلسوف يكون لهم موقف آخر».
فرضت لحظة سياسية مرتهنة بتوقيت محدد، ومعطيات قابلة للتغيير بشكل سريع، حشر المشروع التركي، الرامي للتمدد على حساب الجغرافيا السورية المأزومة، في زاوية ضيقة وصولاً إلى كبح جماحه والتخفيف من اندفاعه، لكن ذلك سيكون لوقت محدد، ولا يمكن بحال من الأحوال توصيف التصريحات الصادرة عن قيادات في «مسد وقسد» بعيد صدور بيان طهران بأنها تتسم بالمسؤولية التي تفترض التعاطي مع الأزمة بنهج وتفكير مختلفين، فقول رياض درار الرئيس المشترك لـ«مجلس سوريا الديمقراطية» بأن «الحوار مع الجيش السوري، والعمل المشترك لحماية الأراضي السورية، يشكلان مقدمة للحوار السياسي الجاد الذي يجب أن ينتج حلاً جذرياً، ويبني شكلاً مستداماً من العلاقة لا تقصي أي طرف من العملية السياسية»، هذا القول يشي باستمرار نهج «المراوغة» وما يؤكد ذلك هو توقيته الذي جاء فيه، فالأزمة، التي استولدها خروج مصطلح «مناطق شرق الفرات» إلى العلن، باتت بعمر سبع سنوات، والسؤال ألم تكن تلك الفترة كافية للوصول بالحوار السياسي إلى مراميه التي يجب أن تكون تحت سقف السيادة السورية؟
تقوم التصورات السياسية في «مسد وقسد» على أن الحلول التي أنتجتها «التسويات» التي حصلت في العديد من المناطق السورية لا يمكن تطبيقها في مناطق الجزيرة السورية، وهذا لوحده يمثل جنين بذرة «انفصالية» تقوم على محاولة إيجاد خصوصية معينة لهذي الأخيرة، والفعل قد يشكل لاحقاً بداية لاهتزاز العديد من التسويات التي جرى التوصل إليها، والتي شكلت الأرضية لعودة الاستقرار والهدوء النسبي لما يقرب من 70 بالمئة الأراضي السورية، والمؤكد هو أنه ما لم يتخل الاثنان، أي «مسد وقسد»، عن تلك التصورات فإن الأزمة لن تكون على طريق الحل، بل ستسير إلى مزيد من التعقيد الذي سوف يشكل من جديد مقدمة لاستحضار المناخات التي تلت إعلان الرئيس التركي عن عزمه القيام بعملية عسكرية في الشمال السوري قبيل أن تنجح قمة «طهران» في لجم اندفاعته، الفعل الذي سيكون إلى حين.