من دفتر الوطن

القوة الشريرة

| عصام داري

من المعروف أن الأديب والكاتب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي يكتب الروايات الطويلة التي قد يتجاوز عدد صفحاتها الألف صفحة، فعلى سبيل المثال جاءت رواية «الإخوة كارامازوف» في ثلاثة أجزاء، على حين جاءت بعض الروايات الأخرى كـ «الجريمة والعقاب» و«الأبله» و«الجن» وغيرها في جزأين، إضافة إلى روايات لم تتجاوز الجزء الواحد.

المعنى من ذلك أن هذا الروائي العظيم لم يكتب القصة القصيرة، ولم يهتم بالقصص القصيرة لا من قريب ولا من بعيد.

لكن من قرأ روايات دوستويفسكي التي ترجمها الدكتور سامي الدروبي ونشرتها وزارة الثقافة المصرية فسيقرأ قصة قصيرة لا تتجاوز الخمسين صفحة ملحقة بإحدى الروايات الطويلة، ومن أسف لا أذكر مع أي رواية، لكنني أتذكر موضوعها الطريف والذي يحمل رسالة خطيرة!.

تروي القصة – وأنا أنقلها بتصرف نسبي- أن رجلاً من كوكب الأرض شاهد جسماً غريباً مضيئاً هبط من السماء على الأرض بالقرب منه، ومن ثم خرجت مخلوقات غريبة من هذا الجسم، أو المركبة الفضائية ودعته للصعود إلى المركبة، ففعل، ثم طارت في الفضاء.

هنا تبرز سعة خيال الكاتب الروسي عندما يصف صعود المركبة وابتعادها عن الأرض شيئاً فشيئاً وكيف كان كوكب الأرض يصغر ويصغر حتى يختفي عن نظره، ولاحظوا أن هذه القصة كتبت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أي أنها ربما سبقت رواية «آلة الزمن» للكاتب البريطاني هربرت جورج ويلز التي ظهرت في عام 1895.

لننسَ للحظة هذه التفصيلات ومن سبق من في الخيال العلمي، ولنذهب إلى الموضوع الذي نسج دوستويفسكي قصته حوله.

فهذا البشري الذي سافر عبر الكواكب والنجوم وربما المجرات هبط في كوكب بإمكاننا أن نطلق عليه تسمية «الكوكب الفاضل» على غرار المدينة الفاضلة التي تصورها الفيلسوف الإغريقي أفلاطون.

كوكب جميل تسوده المحبة والحب والأخلاق والتعاون والغيرية وكل السمات التي تجعله مثالاً للمدينة الفاضلة.

تعجب «ابن آدم» من هذا الكوكب وشعبه المتصالح مع نفسه، فلا حروب ولا خصومات وجيوش وعسس ورجال الشرطة والأمن والدفاع المدني، لأن سكان هذا الكوكب العجيب يقومون بكل ما يلزم كي يحافظوا على نقاء كوكبهم ومنع أي شطط هنا أو هناك، وبالتالي لا ضرورة لوجود محاكم ووزارات وحكومات وبطاقة ذكية ولا لتقنين كهربائي ولا وجود لفقير يتضور جوعاً، ولا غني يموت من التخمة!.

كل ذلك كان مع وصول «ابن آدم» إلى هذا الكوكب المثالي، وهنا تبدأ لعبة البشري الذي هبط زائراً على الكوكب، فراح ينقل أخلاق وتصرفات ومشاكل وحروب أهل الأرض إلى سكان الكوكب. وهكذا تحول كوكب الأحلام إلى نسخة مصغرة عن الأرض بحروبها وأخلاقها وفسادها ولصوصها وأنانية شعوبها، فسادت الفوضى وعمَّ الخراب وغاب السلام وتبدلت الحال كلياً.

لو اختزلنا الحكاية بكلمتين يمكننا أن نقول: إن تفاحة واحدة فاسدة ستفسد كل التفاح الموجود في الصندوق، وإن فاسداً واحداً قادر على إفساد سكان كوكب كامل بجميع مكوناته.

تصوروا أن فاسداً واحداً يفسد كوكباً، فكيف إذا كان لدينا آلاف الفاسدين والمفسدين؟ وسأترك الجواب لكم، وأرجو ممن لديه إحصاءات تقريبية لعدد الفاسدين في بلدنا أن يوافيني بها لأنني عقدت العزم على تأليف موسوعة الفساد كخدمة للأجيال القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن