كانت الحرب الأوكرانية التي بدأت في شباط الماضي حدثا جيوسياسيا هو الأهم، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، مما شهده العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فيما من الواضح أن النظرة الأميركية في التعاطي مع ذلك الحدث كانت تتمحور حول فرضية وضعها زبينغو بريجنسكي، مستشار الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، ومفادها أن روسيا لا تستطيع أن تصبح دولة عظمى من دون أوكرانيا، وهذا يفسر، إلى درجة كبيرة، الطريقة المختلفة في التعاطي الأميركي مع الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة راهنا عن تلك التي حدثت في شهر آب 2008 الذي شهد الحرب الروسية الجورجية التي كانت طبيعة الضجيج الغربي حولها تؤكد أن المآلات المحتملة للحرب لا تشكل تغيراً يذكر في الموازين القوى القائمة داخل القارة العجوز، ولا تغيراً أيضاً في موازين القوى العالمية بما يهدد سطوة الغرب عليها.
لربما تظهر العديد من المؤشرات أن الأميركيين كانوا قد خططوا لاندلاع الحرب الأوكرانية عبر الضغط على روسيا الذي ظهر جلياً في تجاهل «الضمانات الأمنية والعسكرية والإستراتيجية» التي طالبت موسكو بها بشكل حثيث وخصوصاً في الأشهر القليلة التي سبقت الحرب، وكذا عبر محاولات شد الخناق على موسكو في محيطها البحري الذي سبق محاولات الإطباق البري الذي مثلته هنا الجغرافيا الأوكرانية، لكن تلك المؤشرات التي تدفع باتجاه القول إن ثمة «فخاً أوكرانياً» كان قد نصب لروسيا، هي نفسها التي تراكم صورة تشير إلى ضعف الأداء الغربي في التعاطي مع مفاعيل ذلك «الفخ»، إذ لطالما كان الأهم من نصب الفخ هو حسن الإدارة التي يظهرها القائم بالفعل لاصطياد «الطريدة»، وما تظهره الحالة السابقة كثير وهو جله لا يشير إلى ذلك «الحسن» في الإدارة، فإذا ما كان الخيار العسكري باستخدام أسلحة غير تقليدية ممنوعاً، واستخدام التقليدي منها لن يفيد سوى في عرقلة العملية العسكرية الروسية، فإن الخيار الوحيد المتبقي هو سيف العقوبات الاقتصادية الذي راحت غرف صناعة القرار تجترح، وتجترح، طبعات لا منتهية منه، والشاهد هو أن ذلك السيف كان ذا حدين، والثابت أيضاً أن «حده الغربي» هو الذي كان الأشد إيلاما، فبعد مرور ما يقرب من ستة أشهر على بدء الصراع كان الأوروبيون يرقبون انهيار عملتهم، ورمز وحدتهم، ولم يكن بمتناولهم فعل الكثير، صحيح أن الانهيار هنا قد يكون من النوع الخادم للولايات المتحدة، ولربما ساهمت هذه الأخيرة فيه، على اعتبار أنه يزيد من حال الوهن الأوروبي الذي سيفضي بالضرورة إلى مزيد من الارتماء في الحضن الأميركي بدرجة أكبر مما سبق، لكن الاحتياج الأميركي الآن هو لأوروبا قوية تستطيع أن تكون جبهة داعمة لواشنطن في محاولاتها لإخراج روسيا من حلبة التنافس، ثم التفرغ لمواجهة الصين، الأمر الذي يرجح غياب البصمة الأميركية عن ذلك الفعل الذي نقصد به هنا، تراجع اليورو.
تمثل الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن للشرق الأوسط بين 13-16 تموز الجاري، مؤشراً آخر على تضعضع القوة الأميركية، والثابت هو أن زيارة بايدن للرياض كانت تغليباً للمصلحة النفعية على الشعارات التي ما انفكت الإدارات الأميركية ترفع لواءها وتتغنى بها، وعلى الرغم من أن ذلك التغني كان قد سجل في العديد من المحطات، والمراحل، صبغة إعلامية أكثر من كونها منهجية، لكن الوقع هنا كان يبدو صارخاً حتى تكشف القشر كله ليبان اللب في العمق، وإذا ما كان الفعل الذي برره بايدن بالقول: «أنا ذاهب إلى الرياض من أجل مصالح بلادي»، يصب فعلاً في الخانة سابقة الذكر نظراً للحاجة الماسة إلى وضع سوق النفط تحت السيطرة، إلا أن القفز هنا فوق «المحرمات» يمثل شرخاً في مشروعية القوة وسطوتها، والاضطرار للفعل يعني من الناحية العملية أن ثمة انفلاتاً محتملاً في «أزرار» السيطرة التي كانت تقاد في السابق بطريقة أسلس، ثم إن حالة الاحتياج الأميركي لتوسعة «الناتو» والعمل على ضم فنلندا والسويد، وكذا النمسا التي امتنعت، والذي ستكون له أثمانه الداخلية في كلا البلدين اللذين عاشا «الحياد» فترة تقترب من القرنين، هذه الحالة تشير أيضاً إلى أن الأدوات المتوافرة لا تبدو كفيلة بإنجاز المهام.
في مطلق الأحوال يمكن القول: إن علائم «المرض» كانت قد بدأت بالظهور على الوجه الأميركي منذ ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب الذي شهد عهده تخبطاً على مستوى السياسات الخارجية غير مسبوق، ونحراً لتحالفات مضت عليها عقود، وأن إدارة بايدن التي ورثت ذلك الوضع كانت محكومة بضوابط ناجمة عن التراكمات السابقة التي لم يكن ترامب في السابق، وبايدن راهناً، يمثل أكثر من عامل ذاتي فيها، بمعنى أنها كانت نتاجاً لعوامل موضوعية تراكمت حتى بدا لزاماً على الفعل أن يشكل ظاهرة لا بد لتبلورها أن تجد «الذاتي» الذي مثله هنا هذان الأخيران.
هناك الكثير من الظواهر التي ترصد حالاً من فقدان التناغم بين «الدولة العميقة» الأميركية و«الحاكم التنفيذي»، وهذا لا يطفو على السطح إلا ليشير إلى مكامن العطب التي تغوص في البنيان، ولربما كان أبرز مثال قريب عن تلك الحال، هو إعلان الرئيس بايدن إصابته بمرض السرطان قبل أيام، الأمر الذي سارع البيت الأبيض إلى نفيه عبر القول: إن «الرئيس لربما قصد إصابته السابقة بمرض سرطان الجلد الذي تعافى منه»، وتتعدد الأمثلة ليصح وضع محاولات الكونغرس الأميركي لاستصدار قرارات بإدانة الرئيس السابق دونالد ترامب في سياقاتها أيضاً، فالمحاولات إياها ترمي إلى إبعاد الأخير عن المشهد السياسي الذي يحاول العودة إليه عبر انتخابات 2024 بوصفه مؤشراً إلى وهن البنيان.
هنا يمكن القول إن كلاً من دونالد ترامب وجو بايدن، باتا يرمزان إلى وهن أميركي عام، أو أنهما يمثلان مؤشراً ظهر على الوجه كدلالة على هذا الأخير، لكن ما يطفو على السطح لا يكون عادة إلا انعكاساً لم يعتمل داخل أجهزة الجسد التي إن اختل أداؤها بات لزاماً عليها أن تخرج إلى السطح ما يشير إلى وجوب معالجتها.