من المؤكد أن رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان وجد في الأزمة الأوكرانية ضالته، للتمكن أكثر من إثبات دوره واحتلاله في سورية، كما وجدها سابقا في الأخيرة، لأن يكون لاعبا مهما في المنطقة، ويفرض أجندته في جميع القضايا التي تشكل محط خلاف بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، بحكم إدراكه سعي كلا الطرفين إلى نيل وده.
تشكل المتناقضات بين واشنطن وموسكو في الميدانين السوري والأوكراني خاصة، وفي مختلف العلاقات بين البلدين عامة، نهجا رئيساً في سياسة اردوغان، وبوصلة تحرك في دروب مصالحه، وفرجاراً يقيس من خلاله مدى إمكانية التمدد هنا أو هناك، والضغط على هذا أو ذاك للحصول على مبتغاه في ميادين المنطقة، ولا يكف عن النكث بعهوده واتفاقياته، إذ يتحدث ويقر في أروقة السياسة والاجتماعات بشيء، ويعمل على أرض الواقع شيئاً آخر، يناقض برمته جميع ما تم التوصل إليه في اجتماعاته، فعلى الرغم من تأكيد قمة طهران التي عقدت مؤخراً بصيغة «أستانا» وجمعته إلى جانب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والروسي فلاديمير بوتين، بأن أي عمل عسكري في الشمال السوري يصب في مصلحة الإرهاب، وضرورة حل الإشكاليات هناك مع الحكومة السورية، فإن أردوغان سرعان ما عمد إلى تصعيد الوضع في ريفي الحسكة وحلب، عبر سلسلة من الاعتداءات على تلك المناطق.
لا أحد ينكر مدى امتلاك رئيس النظام التركي من أوراق ضغط ضد الأميركي والروسي، أوراق مكنته من أن يكون لاعبا رئيساً بالأزمة في سورية وأوكرانيا، فكان بذلك حجر عثرة في إيجاد حل سياسي في سورية، عبر دعمه التنظيمات الإرهابية، واحتلال جزء من الأرض السورية، الأمر الذي يهدد وحدة وسلامة الدولة السورية، ولا يتوانى عن التهديد المستمر باحتلال المزيد، حيث عينه على منبج وتل رفعت بريف حلب، وهو بانتظار ضوء روسي أقله باللون الأصفر، للذهاب باتجاه شن عدوانه، وهو ما لم يتمكن حتى الآن من الحصول عليه، فيعمل على المناورة والعدوان من بعد عبر مدفعية جيشه الثقيلة، وصواريخه البعيدة المدى.
أردوغان الذي يواصل اللعب على المتناقضات، ويعرف كيف يستثمر جيداً في بازاراتها، دعا بمجرد عودته من قمة طهران، إلى ضرورة مغادرة القوات الأميركية من شرق الفرات، في تصريح يشكل رسالة ضغط على واشنطن، بهدف الحصول على ضوء أخضر منها لشن عدوانه، الأمر الذي أكده موقع «المونيتور» الأميركي بأن اردوغان لا يخفي حقده تجاه الرئيس الأميركي جو بايدن لرفضه الاستجابة لدعواته للتخلي عن الأكراد السوريين، ونقل الموقع عن أردوغان في رحلة عودته من طهران «أنه يتفق مع روسيا وإيران على أن الولايات المتحدة يجب أن تغادر سورية، إنهم يقولون إن على أميركا أن تسحب قواتها من شرق الفرات».
تناقضات النظام التركي ظهرت جلية أيضاً في تأكيد وزير خارجية النظام التركي مولود تشاوش أوغلو بأن بلاده، لا تطلب الإذن مطلقا، من أي أحد قبل شن عملية عسكرية في سورية، قائلا: «يمكننا تبادل أفكار، لكننا لم ولن نطلب مطلقا إذنا لعملياتنا العسكرية ضد الإرهاب، يمكن أن يحدث ذلك بين عشية وضحاها، بشكل غير متوقع»، الأمر الذي رجحته منى يعقوبيان من معهد الولايات المتحدة للسلام، بألا تثني قمة طهران أردوغان الذي يتحضر لانتخابات رئاسية في 2023، عن القيام بخطوة رمزية في شمال شرق سورية تتيح له الادعاء بأنه قام بتحرك، ولكن من دون شن هجوم عسكري واسع، خصوصاً أنه يعتقد أن هجوماً في سورية وربطه بمسعى إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم سيكسبه «تعاطفاً» قبل الاستحقاق، وهو ما أكدت عليه صحيفة «فايننشال تايمز» بالقول إن الدور العسكري والمدني المتزايد لأنقرة في شمال سورية يوفر لها جسراً لمحاربة «حزب العمال الكردستاني»، إلا أن ذهابها أبعد من ذلك قد يثير لها مشاكل دولية.
فائض القوة الذي يشعر به أردوغان، سواء أكان حقيقة أم وهماً، دفع به إلى الانخراط في معظم مشاكل المنطقة من سورية إلى أوكرانيا إلى قبرص وليبيا واليمن والعراق، كل ذلك جعل حاله أقرب إلى حال الصياد العجوز في رواية أرنست همنغواي، «العجوز والبحر»، والذي سأل نفسه بعد ثلاثة أيام من الصراع مع أسماك القرش بعد توغله في عمق البحر واصطياده سمكة كبيرة ربطها لكبرها في زورقه، فأكلتها أسماك القرش، ولم تترك له منها إلا الهيكل العظمي، من الذي هزمك؟ لا أحد أنا الذي ذهب بعيداً.