قضايا وآراء

لم يسبق للجزائر أن أضاعت «سمت الشمال»

| عبد المنعم علي عيسى

كانت دمشق هي المحطة الحادية عشرة التي يتوقف فيها وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة في سياق البحث عن تلاقيات بين دول كانت حتى الأمس القريب تعتبر أمنها جزءاً لا يتجزأ من أمن جوارها العربي الذي أرسته حقائق الجغرافيا أولاً ثم رسخته وقائع التاريخ ثانياً، وكلا العاملين، حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ، كان قد رسم الإستراتيجية العليا لتلك الدول فترة طويلة قبيل أن تستطيع نظرية «التفتيت الذري» لهيولى البنيان العربي من أن تؤتي أكلها بدءاً من عام 1977 الذي أعقبه مراجعات كانت في جلها تقدم إجابات مختلفة، حول المصير والمسار، عن تلك التي كانت معروفة قبيل هذا العام الأخير الذي نجحت فيه واشنطن في «تحييد» قاهرة السادات فارضة في الآن ذاته مفاهيم جديدة كانت من النوع الذي يعبث بكل تلك الحقائق ومعها سيل وقائع التاريخ آنفي الذكر.

دون شك جاءت زيارة لعمامرة إلى دمشق، في سياق الجهود التي تبذلها الجزائر لإيجاد توافق عربي حول ملف عودة دمشق إلى الجامعة العربية بعد غياب زاد على عشر سنوات، عندما أعلن اجتماع لوزراء الخارجية العرب تعليق عضوية سورية في الجامعة شهر تشرين الثاني من عام 2011، وهو القرار الذي تحفظت عليه الجزائر في حينها، والملف كما يبدو شديد التعقيد وما يزيد في تعقيده هو تشابك الملفات الإقليمية والدولية التي راحت تثقل على الأزمات القائمة في المنطقة عموما، وعلى الأزمة السورية بشكل خاص، لاعتبارات تتعلق بنواح جيوسياسية وأخرى لها علاقة بالمواقف التي ثبتت عندها دمشق، ثم رفضت أن تبدي أي «ليونة» فيها وفق التصريحات الصادرة عن منابر عربية عديدة.

كان تغييب البيان الصادر عن وزارة الخارجية الجزائرية، عشية زيارة لعمامرة إلى دمشق، لأي إشارة حول المباحثات التي سيجريها الأخير، والمتعلقة باحتمالات حضور دمشق للقمة العربية المقرر انعقادها في الجزائر شهر تشرين الثاني المقبل، قد عكس حالاً من الضبابية المقصودة، التي تشير إلى أن ذلك الملف لم يحسم بعد، وما يزيد من صوابية هذا التقدير الأخير هو التقارير التي راجت مؤخراً وتتحدث عن معارضة سعودية مصرية لتلك العودة، وتلك التقارير، تحظى بمصداقية كبيرة قياساً للسياسات التي تنتهجها كل من القاهرة والرياض والتي جرت قولبتها من جديد في هذا الاتجاه بعيد قمة جدة 15 تموز الجاري، فبعيداً عن الطلب الأميركي الذي كان يصب في هذا الاتجاه، ترى الرياض والقاهرة، أن عودة محتملة لدمشق إلى محيطها العربي في هذه المرحلة هو فعل من شأنه أن يخلط العديد من الأوراق ويربك العديد من الملفات التي لا تزال قيد التبلور.

أصداء العاصمة الجزائرية التي عنيت بزيارة لعمامرة لدمشق وضعت فرضيتان لملف عودة الأخيرة إلى الجامعة العربية، الأولى تقول إن المشاورات الحثيثة التي تجهد الجزائر من خلالها لتمهيد الطريق، قد تفضي في النهاية إلى مشاركة وفد رسمي سوري في قمة الجزائر، وهو احتمال ضعيف كما تصفه تلك «الأصداء»، أما الاحتمال الأقوى الذي تتضمنه الفرضية الثانية، فيقول بالتوافق على إدراج موضوع عودة سورية إلى الجامعة العربية ضمن أجندة القمة العربية المقبلة للمناقشة والتصويت عليه من القادة والزعماء الحاضرين في القمة، وفي هذه الحال ستصبح العودة المفترضة، فيما إذا كانت نتائج التصويت إيجابية، مؤجلة للقمة التي ستعقد في القاهرة العام المقبل، وربما كان هذا الحساب الأخير يدخل أيضاً في حسابات الأخيرة التي لا تريد للجزائر أن تحظى بهكذا «حصاد»!

الآن، بات من شبه المؤكد بعد سماع المؤتمر الصحفي لوزيري الخارجية السوري والجزائري الذي عقداه الإثنين الماضي، أن الطريق لحضور دمشق قمة الجزائر هو مسدود تماماً، إلا في حال حملت الأشهر الأربعة، التي تفصلنا عن تلك القمة جديداً من النوع الذي يكون فارضاً لتحولات جذرية، وعلى الرغم من ضعف هذا الاحتمال أيضاً المرهون بتغيرات حاصلة على ضفاف «المعترضين» لا على الضفاف الشامية، إلا أن الجهد الجزائري لن يتوقف عند المحطات إحدى عشرة ولسوف تتلوها محطات أخرى قد تكون تكرارية في بعضها.

في مطلق الأحوال يسجل للدبلوماسية الجزائرية، التي تواجه تحديات كبرى في مساعيها، أنها ظلت مؤمنة بثوابتها ونهجها الرامي إلى وجوب حدوث التلاقيات العربية العربية ولو عند الحدود الدنيا منها، وهي ما انفكت تعمل على تحقيق تلك التلاقيات في ظروف صعبة تجعل من القائم بالفعل كمن يسير بقاربه عكس التيار، وهي ستبقى إحدى ركائز العمل العربي المشترك، الوكيل الوحيد والحصري، لمواجهة التحديات التي فرضت على المنطقة، والتي تهدد بانشطارات جغرافية في بعضها، وتهدد في بعضها الآخر بتغيرات كبرى في الهوية واللبوس اللذين سيتبعهما خلق مزاج عام جديد يقود نحو تحولات لا علاقة لها بالتجارب التي خاضتها دول المنطقة على طريق الاستقلال والنهوض.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن