ثقافة وفن

استقلال سورية بين الكتلة الوطنية والثورات الوطنية … الحوراني: سيطر الطموح الشخصي على معظم الأعضاء الفاعلين في الكتلة الوطنية

| د. إسماعيل مروة

تعد مرحلة ما بعد خروج الأتراك من سورية ودخول الفرنسيين من أغنى المراحل التاريخية في تاريخ سورية الحديث، وهذه المرحلة موضع خلاف بين الكاتبين والباحثين، ويبدأ الخلاف من حكومة ما قبل الاحتلال الفرنسي إلى الحياة السياسية خلال الاحتلال، وإلى الجلاء حيث نجد تفسيرات للاستقلال والجلاء تصل حدّ الظلم، وقد طالت هذه القرارات شخصيات لا مجال للتشكيك بها مثل يوسف العظمة، وقد كتب كاتبون عنه ووصفوه بأوصاف، ورووا أحاديث عنه وعن حقيقة استشهاده إلى أن كانت الوثائق التي لا مجال لمناقشتها من الدكتور الراحل حسين سبح رئيس مجمع اللغة العربية الأسبق، ورئيس جامعة دمشق الذي قام بنفسه مع صديقه الدكتور الخالدي المتطوع بتفحص الجثث والقتلى، وقام الطبيبان بتقديم الأدلة بأنهما عثرا على جثة العظمة مبتورة البطن من الأمام، وأنهما من دفناه في ميسلون حيث يرقد إلى اليوم شهيد الاستقلال الأول… هذه المرحلة الشائكة يتصدى لها الدكتور محمد الحوراني في كتاب صدر حديثاً (استقلال سورية بين الكتلة الوطنية والثورات الوطنية).

والدكتور الحوراني متخصص في تاريخ سورية الحديث، ومن هنا تأتي الأهمية الأولى لهذا الكتاب، فنحن أمام متخصص ومرحلة حرجة وصعبة يتنازعها الكاتبون بين الحب والإيديولوجيا، لذلك وجب أن تدرس دراسة علمية بعيدة عن التأثيرات.

نظرة كلية

الكتاب بحث علمي مسهب، وهو لا يقتصر على جانب واحد دون آخر، وقد ساعد المؤلف على ذلك اختصاصه التاريخي، إضافة إلى غايته التي انطلق منها والمتمثلة في قراءة علمية فرعاها الأساسيان الكتلة الوطنية والثورات الوطنية، ونحن في أغلب الدراسات نجد ميلاً مع، أو انحيازاً ضد، وذلك وفق مفهوم الانتماء أو الحب أو الرغبة، وغالباً ما نجد دراسات تقتصر على دور الزعامات الوطنية وتمجيده، أو إدانته وشيطنته، أو دراسات تتحدث عن الثورات على الأرض تهمل الجوانب العسكرية والمعارك التي كانت تجري على الأرض بين الثوار والقوات الفرنسية، وفي هذه الدراسة نجد ذلك التكامل، سواء وافقنا على طروحاتها أم لم نوافق، فكان الرصد للثورات على الأرض للثوار الذين قادوا المعارك وخاضوها ضد المحتل، إضافة إلى الحراك السياسي الذي كان يرافق هذه الثورات ويستثمرها في كثير من الأحيان، وقد لجأ المؤلف إلى عملية أنسنة منطقية للشخصيات الوطنية التي قادت الحراك السياسي والتفاوض مع الفرنسيين، وهذه الأنسنة أخضعت الشخصيات مهما كانت نظرتنا إليها إلى عملية النقد وفق السياقات التاريخية وظروف المرحلة، ولم تكن الأحكام عامة سلباً أو إيجاباً، وإن كانت قاطعة في سرد الوقائع والوثائق والتواريخ.

«ويعد المؤتمر الوطني الأول الذي حمل ولادة الكتلة الوطنية رداً مباشراً على سياسات بونسو، وبالتالي فهو رد على كل سياسات المحتل الفرنسي، ومتابعة النضال المسلح الذي توقف عام 1927 بنضال سياسي استثمر المناخات التي تركتها الثورة العربية الكبرى، ولم تخل مواقف بعض الزعماء السياسيين من الازدواجية والعمالة للفرنسي، والظهور بالمظهر الوطني، وقد انتبه فخري البارودي لتلك الحال فوجه رسالة تحذيرية إلى سعد الله الجابري منبهاً إياه ورفاقه في الكتلة إلى ضرورة العمل بجد ونشاط لمقاومة الروح الرجعية التي تفشت في البلاد، ولاسيما بعد عودة جميل مردم بك وبقية الوفد المرافق الذي عقد معاهدة 136 في باريس».

وتبدو مشروعية أسئلة الباحث الحوراني، بل ودافع هذه الدراسة مما تجمع لديه في المصادر والمراجع عن الكتلة الوطنية وشخصياتها الوطنية.

«انطوت المصادر والمراجع التي تحدثت عن الكتلة الوطنية وتأسيسها وتداعياتها على الكثير من الإشكالات والأسئلة التي ما زالت تنتظر إجابات شافية عنها.. في الوقت نفسه نتساءل ما مسؤولية قادة الكتلة ولاسيما في التوقيع على اتفاقية 1936 وخسارة جزء مهم من الأراضي السورية؟ وهل كان بعضهم على الأقل متواطئاً مع المحتل الفرنسي في توقيعه على التنازلات؟ وهل كان هؤلاء حقاً هم من ساعد المستعمر الفرنسي في تنمية النزعات الطائفية والقومية، فأضعفوا بلدهم وأوهنوا من عزيمة أبناء أمتهم؟ وهل صحيح أن معظم قادة الكتلة من الماسونيين؟ وما حقيقة ما قيل ويقال عن علاقاتهم بالوكالة اليهودية التي كانت تسعى لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين؟».

ضمن هذه الغايات والمحاور تدور دراسة الدكتور محمد الحوراني الشاملة في الاستقلال والكتلة والثورات، ولأنه من الصعب أن يتم تلخيص الكتاب وهو في 442 صفحة، إضافة إلى طبيعته التي تعتمد التواريخ والأسماء سأكتفي بقبسات من طروحاته العديدة حسب اجتهادي، وهي التي رآها مطاعن على الكتلة الوطنية: (إهمال الطبقات غير الغنية- الارتباط الماسوني- اللقاء بالوكالة اليهودية- تفضيل المصالح الخاصة والتمسك بالسلطة على حساب الوطن والناس).

1- إهمال الطبقات الدنيا: تلك الحقبة بتمامها توصف بالبورجوازية الوطنية، أو بالبورجوازية دون توصيف، وهذا أمر حقيقي لمجتمع خارج من المرحلة الاستعمارية الطويلة، ولا يوجد فيه نخبوية سياسية، حتى النخب كانت من البورجوازية التي انتظمت الحياة السياسية خلال سفرها أو دراستها، وهؤلاء كلهم من النخبة الغنية، لذلك تشكلت النخبة السياسية الأولى في سورية من هؤلاء الذين شكلوا الكتلة الوطنية، وكلهم من الباشاوات والبكوات والأغنياء، والكاتب يقف عند الكتلة وشكلها وتشكيلها إذ أهملت في تشكيلها الطبقات الأخرى غير الغنية، بل وأكثر من ذلك حسب رأي المؤلف اكتفت بجانبين مهيمنين على الساحة هما السني والمسيحي دون التفات إلى الشرائح الدنيا، والانتماءات الأخرى! وربما يعزوا المؤلف لهذا الأمر تبعات ما جرى سواء على أيدي الكتلة أو ما جرى بعد مدة من الزمن، فالإقصاء الطبقي والعقيدي كما يراه عند الكتلة الوطنية كان مقتلاً لها، وكان من أسباب ضياع الاستقلال الناجز «لماذا لم يبادر أعضاؤها بالحرص على وجود المكون العلوي والدرزي وغيرهما من المكونات في قيادة الكتلة، وبالتالي تكون الكتلة أكثر شمولية في تكوينها وأكثر علمانية، وأقدر على التماسك والبقاء وتمثيل الشعب السوري.. وزعماء الكتلة أهملوا المناطق الريفية».

ولا يخفى أن هذا المطعن على الكتلة الوطنية، وإن كان بعضهم ينظر إليه من باب الصراع الطبقي والعقيدي، إلا أنه شكل فجوة كبيرة أسهمت في إضعاف الكتلة الوطنية والحركة الوطنية في مواجهة المستعمر الفرنسي على حد سواء، وأسهم في جعل الاستقلال السوري غير ناجز لأنه استثنى شرائح مهمة، وأدى إلى كوارث جغرافية وخسارات لا تعوض في الأرض والإنسان على السواء.

2- الكتلة الوطنية والماسونية: يتحدث الحوراني عن الارتباط الماسوني لأعضاء قيادة الكتلة الوطنية، وهذا الحديث ليس من عنده، فقد تحدث عنه كثيرون في الخفاء تارة، وتناوله آخرون بوضوح، خاصة في دراسات الدكتور الصديق سامي مروان مبيض، والذي وضع هذا الانتماء ضمن شروطه وظروفه التاريخية. وفي تلك الحقبة كان الانتماء الماسوني انتماء عادياً وطبيعياً يختلف عما نعرفه اليوم عنها، وهناك قوائم كثيرة لأسماء مهمة في سورية كانت من الماسونية وفاخرت بذلك، وكل المنتمين إلى الماسونية كانوا آنذاك من الطبقة العليا للمجتمع.

«كان أحد عشر من رؤساء الوزراء السوريين في عهد الانتداب وبداية الاستقلال من الماسون، ومعهم ثلاثة من وزراء خارجيتها، وعلى الأقل اثنان من رؤساء الدولة».

وقد استقى الدكتور الحوراني معلوماته هذه من المصادر والمراجع، ولا يوجد فيها أي نوع من التجني، وضمت القائمة الذين أجمع الناس على وجودهم كالشهبندر.

وأكد المؤلف نزاهته، ولم يحاول الدفاع عن ماسونيته، وضمت القائمة عدداً كبيراً من قادة الكتلة، والاختلاف أن ذكرها هنا يأتي في سياق تأثيرها على مسيرة الاستقلال وبناء الدولة، وليس على محاولات الفضح والتشويق والاتهام، وهذا يحسب للمؤلف.

3- اللقاء بالوكالة اليهودية: كان صادماً الحديث عن لقاءات زعماء الاستقلال مع مندوبي الوكالة اليهودية، وقد أشار عدد من الباحثين إلى ذلك منهم د. مبيض ود. الحوراني يفصّل، ويظهر أن هذا الأمر كان مع زعماء الكتلة الوطنية.

«وقد حاول الصهاينة التأثير بشكل فاعل في قادة الكتلة الوطنية» على المستوى الفردي لكي يدعوا للكف عن الأنشطة المعادية للحركة الصهيونية في سورية وفلسطين معاً.

واللقاءات هذه كانت قبل احتلال فلسطين، لكنها كانت بعد وعد بلفور ووجود الصهاينة في فلسطين المحتلة، ولاشك في أنها تحتاج منا إلى مراجعة وتدقيق، خاصة مع تضارب الآراء والمواقف التي أظهرها الدكتور الحوراني.

4- تفعيل المصالح الخاصة: سياسة الإقصاء كانت متبعة عند الكتلة وزعمائها.

ويجب ألا يمنعنا الإعجاب برجالاتها من الحديث عنها في إطار ألسنة الشخصيات فنحن أمام شخصيات، وإن كانت نبيلة، إلا أن السياسة دفعتها لسياسات أخرى.

«وقد ردت الكتلة على التحالفات السياسية المناوئة لها بأن سياسة الكتلة الوطنية لا تسمح لأحد سواها بإبداء رأيه في الانتخابات، والمعاهدات المزمع عقدها مع سلطات الاحتلال الفرنسية وهكذا أرادت الكتلة الوطنية احتكار العمل السياسي، وحرمان سائر الفئات الوطنية الأخرى منه».

وهذه السياسة الحزبية التي تحتكر السلطة والقرار، وفي مرحلة مبكرة من حياة الدولة الوطنية أسهمت إسهاماً كبيراً في الإساءة إلى الثورات الوطنية وإلى الاستقلال وضياع أجزاء عزيزة من أرض سورية.

فماذا لو اشترك أبناء سورية بكل أطيافها للوصول إلى قرار واحد؟!

كتاب جدير بالقراءة ويحاول مؤلفه الدكتور محمد الحوراني أن يقدم دراسة تحليلية تشريحية للواقع السياسي آنذاك بين الكتلة الوطنية والثورات الوطنية وحسبنا أن نبني دراسات تنصف بلدنا وشخصياتها وتؤنسنها وتقدم مالها وما عليها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن