تشهد بعض العواصم العربية بين فترة وأخرى، لقاءات واجتماعات ومؤتمرات تعقد تحت عناوين القومية والهوية والعروبة ورفض مشاريع التطبيع مع العدو الصهيوني ومنع الهيمنة الأميركية والتمسك بالقضية الفلسطينية، كقضية مركزية للعرب.
شخصياً تغمرني السعادة كلما انعقد مؤتمر في دولة عربية أو أعلن عن اجتماع نخب المجتمع العربي، وخاصة إذا ضم كبار المفكرين والباحثين والكتاب والأدباء والناشرين ورؤساء مراكز دراسات، تراهم يتوافدون من بلاد متعددة على أمل إصدار وثيقة تضع الخطط الضرورية اللازمة التي من شأنها تحصين مستقبل أجيالنا في مجتمعنا العربي.
غالباً ما انتهت المؤتمرات والاجتماعات بإعلان بيان تقليدي يحمل عناوين فضفاضة لم تعد تطرب مسامع شبابنا، وذلك نتيجة الانكفاء عن مواكبة تأمين احتياجات أجيالنا ومتطلباتهم، فصار الشباب العربي في واد يبحث عن سبل تأمين المستقبل بعيداً عن واقع بلادنا المرير، فيما الدولة ومكوناتها تراها في واد سحيق غارقة في الفساد.
لكن وبكل أسف، لم نلحظ في أي من البيانات الصادرة عن تلك الاجتماعات أو المؤتمرات التي تضم مفكرين وباحثين وكتّاباً ومراكز دراسات، أي مشروع يعنى في كيفية بناء مجتمع عربي حقيقي ومتماسك، أو بوضع خطط وأفكار من شأنها صون مستقبل الأجيال العربية، وحمايتها من الغزو الفكري والحضاري والثقافي والإعلامي الغربي، أو أقله لحماية أجيالنا من التأثيرات والإغراءات السلبية الحاصلة في مجتمعنا العربي الآخذ بالتفكك، الفاقد للدور الفاعل بين المجتمعات، وبدل أن يكون مجتمعاً مشاركاً في صنع القرارات، صار مجتمعنا العربي مجرد متلق لمقررات الدول الفاعلة وما علينا إلا التنفيذ.
نقولها وبصراحة ربما لن تعجب الكثيرين لكنها الحقيقة التي يجب مواجهتها ولو من باب النقد الذاتي.
على مدى سنوات مضت ومجتمعنا العربي آخذ بالتفكك والتحلل من المبادئ والقيم العربية وذلك لأسباب عدة منها:
– تجنب المفكرين والكتاب والباحثين العرب الخوض في الأسباب الحقيقية والخطرة الناتجة عن ممارسة ثقافة الفساد ومدى تأثيرها في تلويث الفكر والإعلام والثقافة وللحضارة العربية وإسهامها في منع شبابنا من الحصول على المعلومة إلا عن طريق فاسد.
– ومن الجدير ذكره أن المجتمع العربي لم تعد تغريه الشعارات القومية، فقد صار مجتمعاً متفلتاً من أي التزام بقضايا امتنا العربية ولاسيما القضية الفلسطينية، ولم يعد للعمل العربي المشترك أي ترجمة في قاموس مجتمعنا الذي تحول إلى قبائل وطوائف ومذاهب على قاعدة يا رب نفسي أو طائفتي ومن بعدي الطوفان.
– الفرد في مجتمعنا بات تواقاً للهجرة عن الوطن، أما مفهوم الانتماء للوطن فقد تبدل بالانتماء إلى مصلحة الفرد أو الجماعة، فالهجرة عن الوطن إلى بلاد الغرب صارت سمة يجمع عليها شبابنا، إما طمعاً للفوز بفرصة تمنحه الأمان واحترام الإنسانية، أو للاستحواذ على فرصة علمية متقدمة تمنحه حق البحث والتطور العلمي غير المتوافر في بلادنا، لنفاجأ بنجاح باهر للشباب العربي في مجالات الطب والبحث والتكنولوجيا وغيرها، فيستفيد الغرب من شبابنا فيما نحن في حالة نزف دائم للعقل العربي.
– أما السبب الرئيسي لهجرة العقل العربي والذي لم يشر إليه أي من البيانات الصادرة في أي مؤتمر، فهو هروب الشباب من فساد استشرى في مرافق الدولة والذي أضحى ثقافة لا بد منها لتأمين مستلزمات الحياة اليومية في بلادنا الأمر الذي أفقد المجتمع تماسكه ودفعه نحو الانحراف والتحلل.
إن ثقافة الفساد المستشرية في مجتمعنا، ستبقى معضلة أساسية أمام بناء مجتمع عربي صحيح ومتماسك ملتزم بالعقيدة والمبادئ الوطنية، لأن عمليات السطو المنظم والفساد الحاصل أضحت جرثومة قاتلة تتوالد وتتكاثر بشكل مروع، كفيلة بضرب آمال ومستقبل الشباب وفي شل قدراتهم وبتسميم فكر الأجيال، الأمر الذي يسهم بالقضاء على الهوية الوطنية والعربية وباضمحلال الالتزام بالمبادئ والقيم والانتماء الوطني.
نقول وبصراحة إن نتائج اجتماعات المفكرين والكتاب العرب بقيت جامدة ومتجمدة، لم تحمل أي جديد ولم تلحـظ الانحراف الحاصل في قناعات وحياة الشباب العربي، ولم تأخـذ بالحسبان مدى انتشار ثقافة الفساد المتمثلـة بإهمال الأنظمـة المتقاعسة عن ترشيد التنمية الفكريــة والعلميــة في مجتمعنـا للإنســـان العربي، بل على العكس تماماً نسـتطيع القول إن ثقافــة الفساد حقـقت انتصاراً بائنــاً علـى مفهوم النظام والدولة واستحكمت بمفاصلها، وبالتالي استحكمت بالمجتمع، فضاعت علينا فرصة بناء الإنسان العربي الذي أحيل إلى كائن عاجز مغلوب على أمره مأخوذ بتأمين حاجاته المعيشية اليومية، ولو كانت مجردة من القيم والأخلاق والمبادئ، وذلك لضمان الاستمرار في الحياة ولو كانــت ذليلة، لا فرق بين الحرام والحلال أو بين المبادئ والقيم وبين الفساد والفجور، الأمر الذي أفقد الإنسان فكرة الانتماء إلى مجتمع صحيح والتمسك بالمبادئ الوطنية، فصار المجتمع العربي على هامش الوجود بين الأمم والمجتمعات فاقـد الثقـة بالغـد وبالمســتقبل.
إن الاهتمام المهيمن على تفكير الفرد في مجتمعنا بات منصباً على اقتناص الفرص، ولو عن طريق الانخراط بين الفاسدين والاحتماء بهم لتجنب ظلم المافيات الفارضة للخوات والأتاوات، والمحمية من بعض رموز الدولة أو من بعض الضباط، وهذا ما تسبب في إغلاق أفق العيش والتقدم والتطور، وكأننا عدنا إلى زمن السلطنة العثمانية الأمر الذي أفقد مجتمعنا عامل التماسك والتعاضد لتسود المصلحة الفردية في المجتمع.
لا يمكن الجمع بين المشكلة والقضية أي بين الفساد وبين القضية الوطنية، فالمشكلة غالباً تطغى على القضية، فكيف يمكن للإنسان العربي الالتزام بالقضايا القومية وبالهوية ومطالبته بالصمود، فيما يواجه مشكلة حرمان أطفاله من الخبز والقوت والدواء والطبابة ومن عوامل التدفئة والتعليم في وطنه.
لا يمكن لأي مجتمع الانتصار على العدو لطالما بقي الفساد في مجتمعنا العربي محمياً ومغطى من السلطة نفسها، محتكراً للقمة عيش المواطن الطيب، فالفساد هو عدو شرس ومقاومته لا تقل أهمية عن مقاومة عدو محتل للأرض.
لا ننكر فعل المؤامرة الغربية الهادفة إلى تجويع شعبنا ومجتمعنا وخاصة في بلاد الشام، لكن علينا الإقرار بفشلنا في مكافحة الفساد وسطوة المافيات في بلادنا، وعلينا الاعتراف، بتقاعسنا عن وضع خطط وبدائل تكفل تماسك المجتمع وبقاءه متجذراً في مبادئه الوطنية رغم كل الصعوبات والعقوبات.
نحن في مجتمع بلاد الشام مستهدفون في لبنان وسورية والعراق والأردن وفلسطين بشكل دائم، ومن أجل الحفاظ على تماسك مجتمعنا ومنعه من التفكك ولضمان مستقبل الأجيال، وجب على المفكرين والباحثين والكتاب العرب في هذه البلاد إعادة النظر بعناوين بياناتهم الفضفاضة، والتركيز على ورشة عمل جدية، لوضع الدراسات والخطط لمكافحة آفة الفساد، لأنها العائق الأساس أمام تنمية وتطور الفكر العربي، ولأن ثقافة الفساد المتبعة ستؤدي حتماً إلى تفكيك عوامل التضامن والصمود في أي مجتمع.