ناظم الجعفري المعلم القاسي صاحب الريشة الرقيقة … بدأ مع أستاذه في زخرفة الدور والقصور الدمشقية .. في القاهرة وضعت قدمي على بداية الطريق الصحيح إلى مستقبلي الفني
| سعد القاسم
ولد المعلم الرائد ناظم الجعفري ( 1918- 2015) لأسرة دمشقية متواضعة وتفتحت عيناه في حارة شعبية، ربما لعبت دوراً أساسياً في توجهه الفني اللاحق، اكتشف معلمه شوقي بلال في الصف الرابع الابتدائي بذور الموهبة الفنية في خطوطه، فأخذ بيده وشجعه، حتى بات يتقن رسم نماذج زخرفية تتدرج في مستوياتها. ثم شارك بمسابقة للتعبير من أجل الانتساب إلى مكتب عنبر، أول مدرسة تجهيزية في دمشق، ونجح فيها، وكان الأستاذ جورج خوري مدرس مادة الرسم في المدرسة فأفاده بخبرته، ووضعه على أول الطريق الصحيح إلى حلمه الكبير. وسرعان ما صار مساعداً له في العطلات الصيفية يعمل معه بزخرفة الدور والقصور في دمشق. فيما عبارة أبيه الدائمة تلاحقه: «الرسم لا يطعم خبزاً يا ولدي، فاختر لك صنعة تأكل منها».
الدراسة في القاهرة
جاءت النقلة الحاسمة في مسيرة ناظم الجعفري في مرحلة تالية تحدث عنها في لقاء صحفي، ونشرته مجلة (الحياة التشكيلية) في العدد 117 عام 2019 حيث قال: «قرأت إعلاناً للكلية العلمية الوطنية في دمشق – وكانت أيامها في مقدمة المدارس النموذجية – تطلب فيه معلمين لجميع المواد. ولم أكن يومها قد نلت شهادتي التخصصية، فتوسط لي الأديب والفنان ممدوح حقي لدى مدير الكلية منيف العائدي فباشرت عملي فيها. ثم تمَّ الإعلان عام 1942 عن مسابقة لإيفاد طلاب لمتابعة التحصيل العالي بكلية الفنون الجميلة في القاهرة، فأعانني المربي أنور الرفاعي في إرسال نماذج من عملي إلى الكلية، كانت جواز سفري للالتحاق بالبعثة الدراسية، وفي القاهرة وضعت قدمي على بداية الطريق الصحيح إلى مستقبلي الفني. طلب إليّ في يومي الأول بالكلية تأدية امتحان عملي في الرسم، وتركت في غرفة مغلقة مع أدواتي وحسناء عارية (نموذج) (موديل) فلم يمر غير وقت قصير حتى كان عملي منجزاً وحائزاً على إعجاب الأساتذة وتقديرهم. ولما كنت مثابراً ومستغرقاً في دراستي لا يشغلني عنها شاغل، فقد اختصرت سنوات دراستي إلى أربع سنوات، تكاملت فيها خبرتي بشكل مكنّني من تصحيح أعمال زملائي الطلاب. ولما حل موعد امتحان التخرج وجدتني أمام لجنة من فنانين مرموقين من خارج الكلية، وطلب إليّ رسم لوحة تمثّل فناناً يعمل في مرسمه وعنده عدد من الزوار، وقد أنهيت اللوحة – كالعادة – بوقت قياسي، وحزت عنها الترتيب الأول.
إثر تخرجه من كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1947، عاد الجعفري إلى دمشق ليعمل بدايةً مدرساً للتربية الفنية في المدارس الثانوية، وفي وقت لاحق عمل أستاذاً في المعهد العالي للفنون الجميلة (كلية الفنون الجميلة) عند إنشائه عام 1960، وكان أحد الأساتذة السوريين المميزين بين الأساتذة المصريين الذين أسسوا المعهد. وكان من طلابه أيضاً فنانون متميزون ومنهم أسعد عرابي الذي يعتبر الجعفري أحد معلميه إلى جانب محمود حماد.
المرسم والعمل الفني
أقام ناظم الجعفري في ثانوية التجهيز الأولى (جودت الهاشمي – حالياً) مرسماً لتعليم الطلاب مبادئ العمل الفني، وفر له كل ما يجعل منه مكاناً استثنائياً لتعلم تقنيات الرسم بأقلام الرصاص والفحم والتصوير بأصابع الفحم، والألوان المائية والزيتية. كان الجعفري المنحاز للتعليم الأكاديمي إلى حد التعصب، جدياً وصارماً إلى أبعد الحدود فيما يتعلق بأصول العمل الفني التي يؤمن بها. وكان بالمقابل كريماً للغاية مع طلابه ومنهم الفنان المعلم نذير نبعه، فربطت بينهما علاقة احترام جلية كالتي يفترض أن تقوم بين معلم قدير ومحترم، وتلميذ خلوق حريص على التعلم. وفي وقت لاحق صار بإمكان الطالب الشاب زيارة مرسم أستاذه في شارع بغداد مصطحباً رسومه ليستمع إلى ملاحظاته. وكان أوضح تجليات هذه العلاقة أن نذير نبعة لم يسافر في منحته الدراسية الجامعية إلى مصر إلا بعد استئذان أستاذه الجعفري والحصول على موافقته.
الفن العالي والشخصية
كان لناظم الجعفري مزاجٌ خاص يمتاز بالحساسية العالية، ويميل إلى القسوة والعزلة بحكم موت مفجع لشقيقة غالية عليه، كانت موضوع عدد كبير من لوحاته، وبسبب تعصبه لقناعاته الفنية كان يأخذ أحياناً شكلاً متعالياً ومستفزاً. فبعد سنوات قليلة مارس فيها تدريس الرسم في ثانويات دمشق، وكلية الفنون الجميلة، اعتكف نحو خمسين سنة بين منزله ومرسمه، مبتعداً عن عرض أعماله على الجمهور، رغم أن عددها تجاوز ستة آلاف لوحة توزعت بين صور أشخاص ووجوه، وطبيعة صامتة، وصور دمشق خاصة، حتى وصفه المرحوم غازي الخالدي بـ(رهين المحبسين)، إشارة إلى منزله ومرسمه. وقد خرج من عزلته لمرة وحيدة لم تتكرر إثر مبادرة من الدكتور محمود السيد عام 2005، وكان يومذاك وزيراً للثقافة، حيث قام بزيارته في منزله، وتلا ذلك إقامة معرض كبير له في المتحف الوطني في دمشق، وإصدار كتاب عن تجربته ألّفه الفنان الراحل الدكتور غازي الخالدي، وأصدرته وزارة الثقافة. كما أنجز النحّــات والناقد غازي عانا فيلماً تلفزيونياً بالغ الأهمية عنه لمصلحة الفضائية السورية.
رسام دمشق
يصح وصف الجعفري بأنه رسام دمشق، وهو ما سنتوقف عنده في الحلقة التالية، وإلى جانب دمشق تميز برسم البورتريه والموديل بواقعية ذات تأثيرات أكاديمية، وأحياناً انطباعية، اكتسبها الفنان أثناء دراسته في (القاهرة). وقد اختلفت توصيفات أسلوبه بين الواقعي والانطباعي والواقعي الانطباعي، ما يشير إلى فرادة هذا الأسلوب، وحين سُئل الجعفري: «في أي مدرسة فنية نستطيع أن ندرج أعمالك الإبداعية خلال مسيرتك الطويلة؟» أجاب الجعفري:
«إن المدارس الفنية التي تشير إليها ليست غير تسميات لأساليب دارجة على ألسنة المشتغلين بالرسم، وأنا أبسّط لك الموضوع كما يلي: دعنا نضع أمامنا عملين فنيين:
الأول: من إبداع فنان اكتملت له الشروط الصحيحة للعمل الفني. والثاني: لدخيل على الإبداع، ونترك للخبير – وهو لا يعرف صاحبي العَمَلَينْ – تفسيرهما والحكم عليهما، ومنه نستطيع أن نفرّق بين الحقيقي والمزيف، وبمعنى آخر إما أن يكون العمل متقنناً ومستكملاً لشروطه أو لا. وإذاً ليس هناك مدارس، بل إبداع أو لا إبداع».
كان ناظم الجعفري إلى جانب ميشيل كرشة ومحمود حماد من أوائل الفنانين السوريين الذين صمموا الطوابع البريدية في سورية، وقد حصل على الميدالية الذهبية في مهرجان الطوابع الدولي في باريس عام 1964. وفي عام 2012 نال جائزة الدولة التقديرية عن مجمل حياته الإبداعية، وكانت المرة الأولى التي تُمنح فيها هذه الجائزة.