حين تحالفت منظمة القاعدة ومعها مجموعات طالبان الأفغانية مع الولايات المتحدة في الحرب الأفغانية ضد الوجود السوفييتي والحكم الأفغاني المتحالف مع موسكو، كان من الطبيعي أن تقيم وكالات المخابرات الأميركية علاقات متينة مع قادة وكوادر هذه المجموعات الإسلامية وخاصة أن جميع المصادر التي نشرت عن هذه العلاقات في عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان ومنه كتاب المؤلف الأميركي جورج كيريل الصادر عام 2003 بعنوان: «حرب تشارلي ويلسون: قصة أكبر الحروب السرية في التاريخ»، كشفت بالتفصيل كل أشكال الدعم والعلاقة الوثيقة بين هذه المجموعات والمخابرات الأميركية وأهمها الإشراف على التدريب العسكري المباشر لهؤلاء الإرهابيين وقادتهم وفتح سجلات عن قدراتهم وهوياتهم الوطنية إضافة إلى الأموال التي تقدمها لهم.
وخلال عشر سنوات من تلك الحرب كان بن لادن وأيمن الظواهري ينخرطان في كل تفاصيل العلاقات مع المخابرات الأميركية ضد القوات السوفييتية وحكومة كابول بصفتهما «العدو المشترك»، بل كان المسؤولون في المخابرات الأميركية يعلقون آمالا كبيرة على هذا التعاون والتنسيق وتوسيع جغرافيته بعد عام 1989 وانتهاء الحرب التي شنها صدام ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تحولت بعد سيطرة طالبان والقاعدة على أفغانستان إلى أولوية في المخطط العدواني الغربي على إيران، وكانت واشنطن تدرك أن مجموعات القاعدة بصفتها «سنية سلفية تقليدية» تمتلك أهم مبررات العداء الموجه ضد إيران وهو إيقاد نار الفتنة بينها وبين إيران على طريقة «الحرب المذهبية»، وكانت القاعدة تعد نفسها السلاح الخارجي الإقليمي والدولي لطالبان باعتبار طالبان صاحبة نظام الحكم الأفغاني الداخلي المناسب الذي يغذي هذه الفتنة ويتيح لمجموعات بن لادن والظواهري استخدام أراضي أفغانستان كقاعدة إقليمية لمجموعاتها وحاضنة لأهدافها.
وخلال العقد الأخير من التسعينيات كانت سجلات المخابرات الأميركية وبعض الدول الأخرى في المنطقة حافلة بمعلومات كثيرة عن مجموعات القاعدة وانتشارها في السودان واليمن والعراق، وقبل أن تنتقل مجموعات القاعدة في بداية التسعينيات إلى تقديم الدعم في المال والتدريب لبعض التيارات المتطرفة الإسلامية في السودان واليمن والعراق، بموجب ما ذكرت مصادر الأرشيف الرسمي الأميركي في تقاريرها حول نشاط القاعدة في تلك البلدان في فترة التسعينيات وخشية واشنطن على بعض مصالحها ومصالح حلفائها، بل وفي بعض الأحيان ضد بعض الأهداف الأميركية ما دفع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون إلى توجيه قصف صاروخي في تلك الفترة على السودان حيث كان يعيش بن لادن والظواهري.
وفي سنوات التسعينيات لم ترغب واشنطن بقطع كل طرق وإمكانات استغلال القاعدة ضد أعدائها الإقليميين وفي مقدمهم إيران وسورية، ولذلك لم تضع على جدول عملها تصفية قادة الصف الأول، وبقيت في عهد الرئيس بيل كلينتون تعول على هذا الاتجاه إلى أن نفذت القاعدة عملية 11 أيلول عام 2001، فأعلنت واشنطن عن حربها على طالبان والعمل على الانتقام من بن لادن إلى أن اختارت في أيار 2011 تصفيته في توقيت دقيق لكي يحل محله الظواهري الذي قيل إنه كان يفضل تكثيف العمليات الإرهابية في العالم العربي بشكل خاص وليس في الساحات الأجنبية.
في ذلك الوقت وجد الظواهري له جدول عمل علني ومكثف ضد سورية والعراق وفي ليبيا وتونس ومصر، ووجد في تركيا ساحة جديدة تنقل مجموعاته الإرهابية لهذه العمليات بعد فقدانه باكستان وأفغانستان وبهذه الطريقة نجحت واشنطن باستخدامه في إستراتيجية «الفوضى الخلاقة» وخطة «الربيع العربي» في نفس عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي تخلص من بن لادن وترك للظواهري خدمة المصالح الغربية على الطريقة الأميركية في أهم منطقة إقليمية، وتولد عن ذلك ظهور جناح القاعدة العراقي عام 2014 من نفس مجموعات القاعدة وأصولها في العراق، وظهرت الولايات المتحدة بمظهر المحارب ضد الإرهاب في حين أن معظم هذه المجموعات كانت تحت مراقبتها وإشرافها غير المباشر ما جعلها قادرة على استغلالها بالطريقة الأميركية، وبزعم أنها تحارب الإرهاب.
والسؤال الذي يطرحه معظم المحللين في الغرب لماذا قررت واشنطن تصفية الظواهري الآن مع أنه كان يعمل ضد أعدائها؟ وإذا كنا لا نستطيع إثبات أنها كانت تتابع تحركاته وتعرف مكان إقامته إلا أن الصلات السرية للمخابرات الأميركية مع بعض مجموعات داعش والقاعدة تتيح في معظم الأحوال متابعة مثل هذه الشخصيات واختيار الوقت المناسب لاستهدافها كأشخاص لإزاحتهم عن التحكم بالقرار ورؤية ما يمكن استغلاله من صاحب القرار الجديد في ظروف جديدة هي ما بعد الحرب الغربية العالمية على روسيا والصين ومحاولة إعادة استغلال القاعدة وما يشبهها في المخطط الأميركي المعد ضد أعدائها، فوجود بقايا هذه المجموعات أفضل لإعادة تدوير مهامها بطرق مبتكرة في ساحة تعد فيها واشنطن استغلال التيارات الإسلامية المتطرفة وتاريخ علاقاتها معها قابلاً دائماً للتجدد.