عادت فلسطين المحتلة إلى الواجهةِ من جديد بعد أن كادت تصبح نسياً منسيّاً في ظلِّ ما يعيشه هذا العالم الملتهب من دمارٍ وخراب، عادت من بوابةِ عملية اغتيالٍ قذرة للقيادي في حركة الجهاد الإسلامي تيسير الجعبري، العملية التي أطلق عليها الاحتلال اسم «الفجر الصادق»، ليتضح للجميع بأن هذا الفجر الكاذب ليس أكثر من ليلٍ حالك ينتظر الأراضي المحتلة إن استسلمت حركات المقاومة لفرضيةِ أن يكون قرار الرد من عدمه خارج قناعاتها وخارج حدود فلسطين المحتلة، أما الصدق الوحيد في هذه العملية أن الجعبري ليس الأول ولن يكون الأخير بسلسلة الاغتيالات التي تنفذها إسرائيل في كل من إيران ولبنان وسورية وفلسطين المحتلة لتبدو معها عمليات الاغتيال هذه أشبه بسياسة ناجحة وجد فيها الكيان الصهيوني ضالته عبر إيذاء الخصم من دون إعطاء الذريعة لحدوث مواجهةٍ سياسةٍ شاملة كلفت هذه الدول خسائر كبيرة على مستوى شخصياتٍ وأدمغة كان لها ثقل ووزن أمني وعسكري وعلمي أوجع الكيان الصهيوني كثيراً، فهل ستنجو إسرائيل هذه المرة بفعلتها؟
لم تكن شخصية تيسير الجعبري تلك الشخصية الهامشية في سياقِ ما بنته حركة الجهاد الإسلامي من تاريخ نضالي جعل منها في المركز الثاني من حيث الأهمية بعد حركة حماس، وفي ظل الدعم التي تلقته الحركة سياسياً وعسكرياً من الدول الداعمة لحركات المقاومة وعلى رأسها الجمهورية العربية السورية، دخل كوادر الحركة متاهة الربيع العربي بالكثير من الثقة بالنفس ومبادلة الوفاء بالوفاء، هذه الفكرة لابد من إيضاحها تحديداً أن الكثير من الذين باتوا يكفرون بحركات المقاومة باتوا يأخذونها بغدرِ حماس وهو أمر مرفوض، إذ يحسب للجهاد الإسلامي بأنها لم تقدم نفسها كمنظِّرٍ للديمقراطية على حساب دماء ضحايا ربيع الدم العربي في هذا الشرق البائس كما فعلت حماس والتي تجاوزت التورط في دماء الأبرياء من الشق السياسي إلى العسكري، كذلك الأمر أبدت الحركة الكثير من الوفاء للدول التي دعمت حركات المقاومة، لم تفعل مثلَ غيرها عندما عضّت اليد التي ساعدتها وقدمت لها الغالي والنفيس، ولكي نكون أكثر دقة فإن حركة الجهاد الإسلامي بادلت دولة المقاومة الأولى سورية الوفاء بالوفاء وهو ما يحسب لكوادر الحركة بعد أن شاهد المواطن العربي السوري الذي كان يتبرع بماله ودمه لدعم القضية الفلسطينية، غدرَ الآخرين.
من جهةٍ أخرى نجحت كوادر الحركة إلى حدٍّ بعيد بالتغريد خارج سرب الولاء والطاعة لقطر وتركيا، لم تغرِ كوادر الحركة وتحديداً السياسية منها، الفنادق الفاخرة ولا الشيكات المفتوحة مقابل الولاء، تنبهت كوادر الحركة مبكراً لحاجةِ نظام أردوغان وتميم للسيطرة على القرار السياسي على الأقل لحركات المقاومة كجزءٍ من عملية تبييض صفحة حمام الدم الذي افتتحوه في هذا الشرق البائس، ولعل هذا التحرر كلف وسيكلف الحركة كثيراً لكن القرار فيما يبدو واضحاً: لسنا مطية لأحد. فهل ستواصل الحركة هذه الاستقلالية في ظل ما تتعرض له من ضغوط لامتصاص صدمة الاغتيال ومنع التصعيد؟
«إسرائيل تستجدي التهدئة»، هذه العبارة باتت في نظر من يجمِّلون الهزائم انتصاراً، كيف لا والعرب باتوا يجبرون الكيان الصهيوني على الاستجداء؟ ألهذا الحد بلغَت فينا حدود الوهم؟ ما أقبحه الاستجداء كفعلٍ دوني يقوم به المجرم بعد النيل من ضحيتهِ، ومن غيرنا نحن العرب نرى بهذا الاستجداء فرصة لإخراج ما لدينا من قبحٍ تجاه الضحية، إن لم نحمّلها المسؤولية فسنضعها في صفٍّ واحد مع الجاني، اليوم يبدو بأن مزاد التهدئة فُتح بأسرع من المتوقع والجميع عاد ليتاجر بدماء الشهداء عبر الهرولةِ لتخليص إسرائيل من عواقب جريمتها وإن كان حال من يروجون لها معروفاً ولا يحتاج إلى شرح، لكن حال من يرفضها لا يقل غرابة عن نظيره، تحديداً عندما تتزاحم الأسئلة التي لا جواب لها في ذهن من يحملون فلسطين في قلوبهم، هل أنتم على أتم الجهوزية لفتح جميع الجبهات بشكلٍ متزامن؟ هل يمكننا اعتبار هذه الجريمة ذريعة لاقتلاع إسرائيل؟!
بواقعيةٍ تامة لا يبدو بأن حركة الجهاد الإسلامي قادرة على احتكار قرار الرد، القضية ليست مرتبطة فقط بالقرار الخارجي للحركة، لكن الأمر مرتبط بالقرار الداخلي في قطاع غزة والذي تسيطر عليه حركة حماس، ما يعني تلقائياً قطر وتركيا، هل ستوافق حماس وهي صاحبة اليد الطولى في القطاع أمنياً وعسكرياً وحتى في سياق العلاقات مع الدول النافذة التي تسعى لفرض التهدئة بأي ثمن على رفض التهدئة والذهاب بعيداً في الانتقام؟ أم إنها سترضخ كما رضخت من قبل للتهدئة؟ مع التأكيد هنا بأن تكرار هذه التهدئة بعد كل عملية اغتيال دقيقة، والتي لم تعد تستهدف كوادر حماس، هو تفريغ القطاع من الخارجين عن القانون بمفهوم دول التطبيع التي لم تقدِّم حتى الآن بدائل ناجحة سوى شعارات واهية عن ربط السلام بالتقدم على المستوى الاقتصادي، مع العلم أن الدول التي وقّعت اتفاقيات سلام لم تقدِّم حتى اليوم ذاك النموذج المبشر الذي قد يدفع باقي الدول لتحذو حذوها، ما يعني بقاء فكرة السلام المجاني المبني على الأمن مقابل الأمان لا أكثر وهو النموذج الذي يُفرح الكيان الصهيوني ويجعله يتمسك به لأنه عملياً أقل كلفة في حساب الربح والخسارة فماذا ينتظرنا؟
قدرنا في هذا الشرق البائس أن نكون ضحايا صناديق اقتراع الآخرين، هل تكون دماء الجعبري ومن سيأتي بعده هي الحبر الذي سيمنع بنيامين نتنياهو من العودة إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية أم إن من اتخذ قرار الاغتيال سلّم بعودة نتنياهو رغم الرفض الأميركي الواضح لعودته، فقرر خلط الأوراق؟ أياً تكن النتيجة فإن عملية الاغتيال هذه هي للاستثمار في الداخل الإسرائيلي لا أكثر لكن أقذر ما فيها أن الإسرائيلي لم يقدم على خطوة تصعيدية كهذه من دون الحصول على ضمانات بعدم التصعيد، تحديداً أن الإسرائيلي خير من يلعب على التناقضات واستغلال ما تدعيه الدبلوماسية الدولية من سعي لإيجاد تفاهماتٍ للملفات العالقة، هل ستضيع الدماء بين مفاوضات الملف النووي الإيراني والحرب الأوكرانية أم إن هذه الدماء ستضاف إلى المعارك المفتوحة في هذا العالم الملتهب؟ لا يبدو بأن الجواب يحمل الكثير من التفاؤل، جميع المعطيات تأخذنا لفكرة أن المعركة الكبرى في هذا الشرق مؤجلة حتى تتقاعد الشياطين، من قال إن الولايات المتحدة وحدها الشيطان الأكبر؟ الجحيم بات فارغاً والشياطين كلها هنا.