تشير الوقائع التي سجلتها الساحة الفلسطينية على امتداد الأيام القليلة التي سبقت ظهيرة يوم الجمعة 5 آب الجاري، إلى حال من الهدوء النسبي على الصعيد الأمني، وهو ما تؤكده الوساطة المصرية التي كانت تسير على قدم وساق ولم يصدر عن أي من القيمين عليها ما يشي بوجود مطالب «متشددة» لدى حركة «الجهاد الإسلامي» التي اكتفت بطلب ضمان سلامة بسام السعدي، أحد كوادرها الذي اعتقل في جنين قبل نحو شهر، وبطلب إنهاء الإضراب عن الطعام الذي ينفذه أحد أعضائها في السجون الإسرائيلية، وهو ما أكده المتحدث الرسمي باسم الحركة الذي قال: «جرت اتصالات مع المسؤولين المصريين قبل نحو ساعة من القصف وكانت ردودنا إيجابية».
إذا كانت الاتصالات «إيجابية» قبل نحو ساعة من استهداف طائرة مسيرة لمنزل القيادي في الحركة تيسير الجعبري الكائن في الطابق الرابع من «برج فلسطين» في غزة، وهو الاستهداف الذي كانت حصيلته سبعة شهداء بينهم طفلة فيما حالات العديد من الإصابات تشير إلى إمكان ارتفاع تلك الحصيلة إلى الضعف، فما الذي استجد واستدعى هذا العدوان الإسرائيلي الذي نشرت صوره على موقع جيش الاحتلال بطريقة مستفزة تهدف إلى إظهار الفجوة التقنية ما بين طرفين بل وأطراف الصراع؟
في أعقاب تنفيذ عملية الاستهداف سابقة الذكر، صدر بيان مشترك لرئيس الوزراء ووزير الحرب الإسرائيليين الذي قال: إن عملية غزة هدفت «لإنهاء تهديد ملموس على مواطني إسرائيل»، وهذا يعني بالمفهوم الأمني الإسرائيلي أن تلك العملية كانت «استباقية» استدعتها معلومات استخباراتية مفادها أن الجعبري كان يهيئ لعمل يطول مستوطنين إسرائيليين أو مصالح إسرائيلية، إلا أن الذريعة لا تبدو متناغمة مع السياق الذي تشير إليه السردية السابقة التي تؤكد ميل حركة «الجهاد الإسلامي» للتهدئة جراء حسابات معقدة من بينها الظروف بالغة التعقيد التي تشهدها الساحة الفلسطينية الداخلية، وكذا الظروف بالغة التعقيد أيضاً التي تشهدها المنطقة بعد «محطة جدة» 15 تموز الماضي والتي لم تتكشف مخرجاتها تلك التي تطول العلاقة الإسرائيلية مع دول التطبيع، وتلك التي لا تزال تبدي خجلاً تجاه حمل تلك الصفة، ما يعني صورة شديدة الغموض في ملامح اللوحة الإقليمية شديدة التأثير بالحدث الفلسطيني على ضفتي «السلطة» و«فصائل المقاومة».
الراجح هنا أن التصعيد الإسرائيلي كان قد جاء في سياق تسجيل النقاط على حلبة الانتخابات الإسرائيلية المنتظرة بعد عدة أشهر، وبهذا المعنى فإن وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس، الطامح للفوز بتلك الانتخابات ثم برئاسة الحكومة، هو الذي استطاع الشد برئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد ذي الخبرة العسكرية الضعيفة التي فرضها مجيئه من خارج المؤسسة العسكرية في سابقة هي الأولى منذ قيام الكيان في أيار من العام 1948، وبذا تصبح الدماء الفلسطينية سلعة يجري تداولها لرفع «سهم» هذا أو تخفيض «سهم» ذاك، ولذا فإن الخيارات المتاحة للرد يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى الذي يكاد يكون أكيداً، فإذا ما كانت «الفجوة التقنية» قائمة ولا جدال فيها، وإذا ما كانت ساحة فصائل المقاومة الفلسطينية تعاني من عطب بفعل حسابات إقليمية معقدة تجعلها بعيدة عن اتخاذ قرار موحد بالرد على الرغم من يقينها الراسخ بأن البادئ بـ«الجهاد الإسلامي» سوف يثني بـ«حماس»، وإذا ما كانت السلطة الفلسطينية تعاني من حالة شلل سياسي لاعتبارات عديدة منها تداعيات قمة جدة، وأبرزها دخول السلطة مرحلة حرجة فرضتها الحالة الصحية للرئيس محمود عباس التي تستدعي التفكير بمسألة خلافته، إذا ما كان ذلك كله صحيحاً فإن الخيار يبقى متاحاً أمام «الفصيل المستهدف» الذي حاولت سلطات الاحتلال الاستفراد به عبر رسائل نقلها وسطاء إلى قيادات في حماس تقول إن الحركة «غير مستهدفة» كما أشار موقع «اكسيوس»، عبر إطالة أمد التوتر، أياً تكن أثمانه، للوصول إلى حالة سياسية هي أقرب لتدفيع تلك الحسابات «الانتخابية» أثماناً أمنية تكون لها تداعياتها على ضفاف الشارع الإسرائيلي.
قد يكون «كم الحطب» المتراكم على الساحة الفلسطينية، وحجم الشرارة التي اندلعت فيه، عاملين كافيين لانطلاق مواجهة تطول وتطول، وأهم ما فيها أن حالة الاستعداد، التي أبدتها الحركة على لسان أمينها العام زياد نخالة، تبدو مصممة على كسر معادلة «البازار الانتخابي» الإسرائيلي الذي كلما شهدت أجواؤه برودة استدعى سماسرته القيام بما من شأنه رفع الحماوة فيها، فيما «القرابين» المقدمة على «المذبح» هي فلسطينية.
القداسة لهذا الدم الفلسطيني المراق دفاعاً عن ذات وهوية شعب، بل وأمة برمتها، في وقت يريد فيه الكثير من «دعاتها» أن يكون رد «الذبيح» مقتصراً على «لثم» السكين.