ثقافة وفن

رحل بعد أن قدم ما يغير المجتمع العربي ويرقى به … د. هاني صالح مترجم كانت الترجمة رسالته التنويرية

| إسماعيل مروة

لحظات المفاجأة، وإن كانت مترقبة بحكم السنوات، فإنها قد تعقد اللسان أحياناً، وربما تلجم القلم عن أن يخط كلمات بحق من يستحقونها، مدة مرت على رحيل الصديق الدكتور هاني صالح، وهو ليس شخصاً عادياً في كل ميدان عمل فيه، فقد كان مدرساً في جامعات الجزائر بعد الثورة، ولكن ميدانه المهم الذي ترك فيه أثراً كبيراً، هو ميدان الترجمة.. يرحل بهدوء وصمت من دون أن يحدث وراءه أي نوع من الضجيج..!

الإعلام واللغة

كنت ألتقيه في أروقة إذاعة دمشق في التسعينيات من القرن العشرين، يمضي وقتاً طويلاً في الظل لترجمة وإعداد وبث البرامج باللغة الألمانية، يكتب هنا، يصوّب هناك، يصحح نطقاً لواحد أو واحدة، لتكون العربية سليمة، والألمانية معبرة بشكل واضح وسليم، وكان يشرح لي ضرورة الإتقان للألمانية حتى تصل رسائلنا إليهم، وحين عبرت عن استهجاني، وأنكرت عليه هذا التشدد لأنه ما من أحد يمكن أن يسمع هذه الإذاعات الأجنبية الموجهة، أقنعني بالأدلة بأن هذه البرامج مهمة، وهناك من يسمعها ويتابعها، وخاصة من أصحاب القرارات والتوجهات، ويمكن أن يبنى عليها.. ومن هنا وجدت له المسوّغ بأن يمضي جزءاً مهماً من ليله في الإذاعة لإعداد هذه البرامج وتقديمها مع مجموعة ممن درسوا في ألمانيا وأتقنوا الألمانية.

الترجمة والانتقاء

أول مرة قرأت شيئاً مترجماً للصديق الراحل هاني صالح أوراقاً من ترجمته لكتاب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكة صاحبة كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) يومها أطلعني صديقي على نص مترجم عن الألمانية، وهو شعر عربي في الأصل، لكنه أخّر تسليم الكتاب للناشر لعله يعثر على الشعر العربي حتى يثبته كما هو، بدل أن يأتي مهلهلاً من العربية إلى الألمانية، ثم من الألمانية إلى العربية، ولم يمنعه العلم، وهو المتقن والأكبر عمراً وقدراً من أن يسألني، وبعد رحلة بحث كانت الأبيات للأبيوردي من قصيدته عن القدس، فأثبتها الصديق كما جاءت في الديوان، وتابع ليثبت بقية الأشعار من مظانها العربية ليخرج الكتاب بصورة علمية ولائقة، وكان هذا ديدنه في كل كتاب نقله عن الألمانية، سواء كان الكتاب أدبياً أم سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو للأطفال.

الترجمة وما يجري على الأرض

كان الدكتور هاني من القلة المتقنين للعربية، ومع ذلك كان يخضع ترجمته للتدقيق اللغوي حتى ينجو من أي غلط ممكن، وهو يملك ناصية اللغة الأجنبية، ومتمكن من الفرنسية والإنكليزية، وينقل عنهما إضافة إلى الألمانية، وقد كان الصديق هو المترجم المعتمد لدى كثير من الجهات عند وجود وفود ألمانية أو نمساوية، وقد أدى دوره بكل إتقان وأمانة.. إضافة إلى ذلك، فعند اشتداد التضييق على سورية انبرى الدكتور صالح مع صديق عمره كامل إسماعيل لنقل كتاب (اغتيال الحريري) أدلة مخفية، إلى العربية، الذي ألفه الألماني كولبل، وقد تمت ترجمة الكتاب في سرعة قياسية، وطبع، وحضر كولبل إلى دمشق، وكان المترجمان معه في كل مكان وعند توقيع الكتاب، وقد أدى هذا الكتاب إلى نتائج مهمة في كشف الحقائق.

وإتماماً للفائدة، فقد اجتمع الصديق الراحل هاني صالح والصديق الراحل جورج قيصر في جريدة «الوطن» في بدايات أعدادها، وبتوجيه من رئيس التحرير، كان الدكتور صالح يقوم بمتابعة الصحافة الألمانية بشكل دقيق، وفي أوقات متواصلة، لترجمة ما يتعلق بسورية وما يتم نشره عن أزمتها، وقد كانت هذه الترجمات تنشر في «الوطن».

وفي أرشيف «الوطن» توجد هذه المقالات التي تظهر دور المترجم الوطني في المتابعة الفورية، فكانت المقالة تنشر بالألمانية وبالعربية في أوقات متقاربة، وربما في وقت واحد، وبعضها كان الدكتور صالح يتواصل مع المؤلفين أنفسهم مثل كولبل، ويحصل على المقال قبل نشره بالألمانية ليتم نقله إلى العربية ونشره في «الوطن».

الترجمة والأدب والاختيار

استمرت صداقتي التي أفخر بها مع الراحل الدكتور هاني أكثر من ثلاثين عاماً، رافقته فيها في كل فاصلة، وكان وفياً معي في كل أزمة من أزماتي، حتى بدأت الأمراض تحول دون اللقاءات الدورية، لكنها لم تتوقف إلا في أثناء مرضي وتعبي، وكان في كل جلسة يعطي دوره من محفوظاته، وهو واحد من المؤمنين بالروح والنور، وفي بيته التقيت بالسيدة والدته ابنة الشيخ سليمان الأحمد السيدة أمينة، وبوالده تلميذ الشيخ وهما لغويان وباحثان، ولهما (المعجم الصافي).

وأذكر لصديقي الراحل الطيب أحاديثه عن خاله بدوي الجبل في منفاه، حين كان هاني طالباً يدرس هناك، وصادف أن ترافقت مع نفي البدوي، فأعطاني صوراً عن البدوي ومعايشته لم أكن لأعرفها لولاه، وأزعم أن كثيرين من المقربين لا يعرفونها، في تلك الشهادة عرفت تعلق البدوي بالمكان، فهو ولا يجلس إلا في الكرسي نفسه في الحديقة، وإن وجد واحداً جالساً ينتظره حتى يذهب ليجلس، وأطيب طعامه العسل، ما كان يستدعي رحلة طويلة لإحضار العسل له، وهو الخبير بجودته، والبدوي، ومعه الجنسية التونسية قدمها الرئيس الحبيب بورقيبة، إلا أنه لم يتحرك يوماً بغير الجواز السوري والجنسية السورية.

الاختيار الموفق

كنت شاهداً على اعتذار الدكتور هاني صالح عن ترجمات لا تتفق مع قناعاته ومصلحة المجتمع مع الإغراءات في العروض، وقد قرأت له عدداً من الكتب كلها تتناول دراسات اقتصادية واجتماعية وسياسية يريد تقديمها للمجتمع للإفادة منها، ولعلي لا أنسى واحداً من أهم ترجماته (مجتمع الأفراد- نوربرت إلياس) والصادر عن دار الحوار، وكانت كلمته لي ودوّنها بعد الفراغ من الترجمة: (أين مجتمعاتنا اليوم مما نرجوه لها؟!).

الترجمة والعمل كانت وسيلة حياة عنده كما عند الجميع، ولكنها كانت وسيلة تجمع ما بين الفائدة الشخصية الفردية، وما بين المصلحة المجتمعية.

واحد من جيل المثقفين المتقنين المنتمين، أخلص حياته لبلده ومجتمعه ونقل ما يعيده، ويبعث فيه الحياة, وبقي على ذلك حتى رحيله إلى عالم آخر وأغنى، أعماله وترجماته باقية تشهد على انتمائه وعلمه، الرحمة لروحه حيث حلت، والعزاء لأسرته، بناته وولديه في غربتهما، ووردة لروحه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن