من المستبعد جداً، وصف العلاقات الروسية التركية بالإستراتيجية، ليس بسبب عدم رغبة البلدين في أن تكون كذلك، ولكن بسبب تموضعهما على ضفتين، تناقض كل منهما الأخرى في مجمل السياسات والرؤى، ولا يمكن وصف لحظات الالتقاء بينهما هنا أو هناك، إلا من باب المصلحة الآنية، أو التكتيك الذي يخدم من وجهة كل طرف إستراتيجيته العامة، من دون تجاهل محاولة هذا الطرف أو ذاك، استغلال حاجة الآخر أو نقطة ضعفه لتسجيل نقطة أو الحصول على مكسب بالإكراه.
يسعى الروسي جاهداً إلى جذب التركي ليكون في صفه خاصة بما يخص الوضع في أوكرانيا، أو أقله أن يبقى التركي على الحياد، بعيداً عن سياسة «الناتو» العدوانية ضد موسكو، فكان الجانب الاقتصادي إحدى المغريات التي نجح الروسي في جعل لعاب رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان يسيل على العديد من العروض والمشاريع التي طرحها الجانب الروسي عليه، الأمر الذي مكن الروسي من تحويل الجانب الاقتصادي، وقطاع الاستثمار إلى قفازات ناعمة، يرتديها في قبضته الحديدة إذا ما أراد مصافحة التركي، في كل جلسة حوار لمناقشة قضايا خلافية، سواء في سورية أم أوكرانيا أو ليبيا أو في غيرها، وهذا ما ظهر واضحاً في كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة سوتشي التي جمعته مع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان يوم الجمعة الماضي بقوله: «هذه المحادثات سوف تفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين لتشمل قضايا التعاون في مجال الطاقة وصادرات الحبوب في البحر الأسود والسياحة والقضايا الإقليمية».
بالمقابل فإن النظام التركي، لا يترك فرصة أو مجالاً، للاستثمار في المتناقضات إلا وفعل، حيث يجيد ذاك النظام المراوغة، وإحداث جلبة في جانب ما، لإشغال الطرف الآخر عن أمور أخرى تكون الهدف الأساس الذي يسعى إليه، فيرفع سقف مطالبه في القضايا الخلافية، للحصول على مكاسب في جانب غالباً ما يكون بعيداً عن موضوع الخلاف، ومن هنا لا يتوانى أردوغان بتجديد تهديداته بشن عدوان على شمال سورية، رغم اعتراض روسيا وإيران وحتى الولايات المتحدة الأميركية، فيما عينه على جملة من المكاسب الاقتصادية، وتسجيل حضور على طاولة الحل النهائي في سورية وأوكرانيا، وباقي المناطق الخلافية في المنطقة.
لم يصدر عن «سوتشي» شيء علني لافت بما يخص الوضع في سورية، بل إن بيان القمة الأخير كان وفياً لما سبقه من بيانات لقمم ثنائية بين بوتين وأردوغان في المدينة ذاتها، بتأكيده على ضرورة الحفاظ على وحدة وسيادة سورية، وضرورة محاربة الإرهاب، إلا أن أرض الميدان في شمال سورية، سرعان ما كشفت عن جانب مما تم الاتفاق عليه، أو هذا ما يمكننا الادعاء به، حيث عملت قوات الاحتلال التركي على الانسحاب من قاعدتين عسكريتين قرب الحدود في قريتي هرقلي وطنوز في الريف الغربي لمنطقة تل أبيض واللتين احتلتهما خلال عمليتها العسكرية التي سمتها «نبع السلام» في تشرين الأول ٢٠١٩، وسبق ذلك تأكيد موقع «المونيتور» بأن بوتين لم يعط الضوء الأخضر لشن عدوان تركي على شمال سورية وخاصة في منبج وتل رفعت، وتجنب الرد على سؤال عما إذا كان يحاول ثني أردوغان عن عزمه، مكتفياً بالإشارة إلى أن الكرملين «يتفهم مخاوف الشركاء الأتراك الأمنية، ونحن بالطبع نأخذها في الاعتبار، إلا أنه من المهم جداً عدم السماح بأي أعمال قد تؤدي إلى زعزعة استقرار الوضع في سورية».
في المجمل يعي كل طرف حاجات الطرف الآخر، ونقاط ضعفه، وبين ما تشكله أوكرانيا من أهمية لدى الجانب الروسي، وسعي أردوغان للفوز بالانتخابات القادمة 2023، ويسعى كل طرف إلى تلبية مصالح الطرف الآخر قدر المستطاع في باقي القضايا المشتركة، لتشبه العلاقات الروسية التركية، زواج «المسيار»، حيث تعلن موسكو وقوفها إلى جانب أنقرة في مكافحة الإرهاب، وفي الوقت نفسه تؤكد أنه في حال سلكت طريق التعاون مع الدولة السورية لحل مسائل التنظيمات الإرهابية فإن ذلك سيكون أكثر صواباً، ما دام ذلك ممكناً، وسرعان ما أدرك الجانب التركي أن لا مفر من التعاون مع دمشق، ليعلن أردوغان في طريق عودته من سوتشي أن أنقرة باتت أكثر انفتاحاً على التعاون مع دمشق، وهو ما يتماهى مع تصريح وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، بعد قمة طهران، وقال فيه إن بلاده منفتحة على «التعاون مع دمشق لإخراج الإرهابيين من المنطقة».