لطالما ارتبطت الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة بتطورات سياسية داخلية ترتبط بالمشهد السياسي الانتخابي الإسرائيلي أو للهروب من أزمات داخلية تعصف بالواقع الحكومي، فقد تمثل ذلك بدايةٍ في عدوان «الرصاص المصبوب» عام 2008 على غزة والذي ارتبط بشكل مباشر بدعم الحملة الانتخابية لإيهود أولمرت الذي سعى لحشد القوى والتيارات الإسرائيلية خلفه في هذا الاعتداء، وفي عام 2012 شنت إسرائيل اعتداء جديداً على غزة تحت مسمى «عامود السحاب» على إثر إقدام جيش الاحتلال حينها على اغتيال أحمد الجعبري، وهو أحد قادة كتائب عز الدين القسام، إذ سعى بنيامين نتنياهو لتعزيز موقعه الانتخابي انطلاقاً من رغبته في تحقيق الانتصار الذي سعى إليه في غزة وإبراز نفسه بأنه الرجل القوي، وعلى الرغم من النكسة التي تعرض لها نتنياهو وجيشه إلا أنه عاود اللجوء لاعتداءات جديدة على غزة في أعوام:
– 2014 «الجرف الصامد» وذلك للتنصل من التزاماته في إطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين ضمن ما عرف بصفقة «شاليط» بعد ممارسة اليمين المتطرف ضغوطاً عليه جعلته في أزمة سياسية.
– 2018 في ظل محاولة نتنياهو التهرب من الضغوط الممارسة عليه للانسحاب من المشهد السياسي وذلك مع بداية محاكمته في قضايا فساد ورشاوى حكومية، وهي ذات الأسباب التي دفعت نتنياهو في أيار 2021 لشن ما عرف بعملية «حارس الأسوار» بعد عدم نجاحه في الجولة الأولى من الانتخابات حينها في تشكيل الائتلاف الحكومي.
على الرغم من أن هذا التكتيك أصبحت نتائجه سلبية بالنسبة للمتاجرين بالدماء الغزاوية من الساسة الصهاينة وأطاحت بنتنياهو من قمة الهرم الحكومي للقاع المعارض، سعى يائير لابيد للإسراع في بداية استلامه لمهامه من شريكه نفتالي بينت في رئاسة الحكومة الإسرائيلية، لاستعراض عضلاته العدوانية بعد اغتيال قائد الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي تيسير الجعبري ضمن ما أطلق عليه «الفجر الصادق» وذلك لتحقيق هدفين أساسيين، الأول: أن لابيد أراد أن يقدم نفسه للناخب الصهيوني وخاصة اليمين المتطرف بأنه الرجل القوي القادر على شن الحروب لحماية ما يسمى بـ«دولة إسرائيل» ولاسيما أن لابيد يعرف في الوسط السياسي الإسرائيلي بأنه من أكثر الشخصيات الضعيفة والتابعة، أما الهدف الثاني: الترويج لنفسه ولحزبه «البيت اليهودي» للانتخابات البرلمانية المبكرة للمرة الخامسة على التوالي والمزمع عقدها في تشرين الأول المقبل.
ثلاثة أيام من العدوان الصهيوني على غزة شنها لابيد بدعم شريكه الحكومي نفتالي بينت ووزير دفاعه بني غانتس، لم تسر كما تشتهيها أهواء وأطماع الشخصيات السياسية والعسكرية في تل أبيب، بل على العكس من ذلك بينت الحقائق التالية:
1- أن تفاخر المسؤولين الصهاينة من الساسة والعسكر بتحقيق إنجاز غير مسبوق عبر استهداف الصف الأول من قادة «سرايا القدس»، هي تفاخرات وهمية لا تمس حقيقة الواقع، ومجرد ادعاءات إعلامية تندرج ضمن الحرب النفسية من جانب، ومن جانب آخر للاستثمار الانتخابي، إذ يؤكد التاريخ المعاصر للمقاومة بأن اغتيال قادتها العسكريين والسياسيين لم يحل دون استمرار تطور أدائها وإمكاناتها ولا تنعكس بأي حال على أدائها القتالي، والدليل على ذلك أن جيش الاحتلال اغتال العديد من أبرز قيادات المقاومة خلال العقود السابقة، ولكن لم يتمكن من التحكم بقواعد الاشتباك وموازين القوى التي باتت تتأثر بقوة المقاومة وتطور إمكاناتها النوعية والكمية، حتى باتت هذه المقاومة تتحكم في مساري الحرب والسلم.
2- نجحت «سرايا القدس» منفردة في تكريس قواعد الاشتباك التي كرستها فصائل المقاومة مجتمعة في معركة «سيف القدس» عام 2021، من خلال شن بداية ردها الساعة التاسعة مساء، وهو توقيت أعلنه شهيد السرايا «بهاء أبو العطا» خلال عدوان 2021 لإطلاق الصواريخ في تحدي للقدرات الصهيونية.
3- على الرغم من الخلل الكبير في القدرات والإمكانات بين «سرايا القدس» وجيش الاحتلال، إلا أن تطور الأحداث واتساعها أظهر قدرة السرايا على توسع وتصاعد دائرة استهدافها التي طالت في المرحلة الأولى جميع مستوطنات ما يعرف بغلاف غزة البالغ عدده 58 مستوطنة، ومن ثم طالت في المرحلة الثانية ما يعرف بمستوطنات المركز «تل أبيب، عسقلان، بئر السبع، مطار بن غورويون وجبال القدس وغيرها» والتي تبعد عن القطاع مسافة تتراوح بين 82- 100كم.
4- تمكن «سرايا القدس» والفصائل الداعمة لها من توسيع دائرة استهدافاتها الصاروخية، يقابله هشاشة القدرات الدفاعية للكيان الإسرائيلي ولاسيما القبة الحديدية وغيرها من منظومات الدفاع التي أدخل عليها تعديلات متعددة بعد معركة «سيف القدس».
5- هذه الأيام الثلاثة من الاشتباك على نطاق ضيق والمحصور بين «سرايا القدس» وبعض الفصائل الصغيرة والكيان الصهيوني، كرست واقع ضعف الجبهة الداخلية الإسرائيلية وتصدع تماسكها وفقدانها للثقة بقدرات المؤسسة العسكرية لجيش الاحتلال، إذ شهدت الأراضي المحتلة وخاصة غلاف غزة حملة نزوح كبيرة نحو مستوطنات المركز مع إطلاق أول صاروخ للمقاومة، كما فتحت الملاجئ في معظم أرجاء الأراضي المحتلة، فضلاً عما كشفته «القناة العاشرة» الإسرائيلية عن هروب بعض الجنود من جبهة غزة بالقرب من موقع كيسوفيم العسكري.
6- أظهرت الأيام الثلاثة من هذا الاعتداء عدم قدرة الكيان ومؤسساته السياسية والعسكرية والاقتصادية على تحمل تبعات إطالة الاشتباك لفترة أطول، وهو ما ألمح إليه لابيد في اجتماعه مع رؤساء البلديات بمنطقة «غلاف غزة» عندما أبلغهم أن ضرر استمرار العملية العسكرية أكثر من نفعه وفق ما نشره موقع «كان» الصهيوني.
7- من النقاط المهمة في هذا الإطار تمثل في غياب حركة حماس وذراعها العسكرية «كتائب عز الدين قسام» عن حلبة الاشتباك سوى ببيانات إعلامية ليس لها قيمة الحبر الذي كتبت به، وهو ما يعني أن حماس أذعنت للضغوط التي مورست عليها للحفاظ على علاقاتها وحساباتها الخارجية والسياسية، وهو ما سيترك واقعاً غير منسي للشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من أن الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة أعلن عن وحدة الفصائل وغرفة العمليات والجبهات، إلا أنه أراد من ذلك إما عدم إظهار حالة التفرقة بين الفصائل لكي لا تكون ورقة رابحة بيد إسرائيل، أو لإرسال رسالة بأن حماس لا تملك اليد العليا وحدها في غزة.
8- الكيان الإسرائيلي الذي اختبر قدراته بمعركة، لا بحرب، مع فصيل مقاوم، هو أمام استحقاق أكبر في مواجهة حزب اللـه مع بداية أيلول، إن لم يقدم تنازلات فيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية، ولاسيما أنه وعلى الرغم مما حققته «سرايا القدس» إلا أن إمكاناتها لا تقارن مع قدرات حزب اللـه الذي بات الشبح المرعب للكيان.