قضايا وآراء

هل ستُفتح البوابة السورية التركية؟!

| د. بسام أبو عبد الله

شكّلت قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سوتشي نقطة تحول واضحة في انعكاساتها على صعيد العلاقات الثنائية الروسية التركية، والأهم الملف السوري الذي شهد نقاشاً مطولاً، وكان أحد الملفات الأساسية، وليس ملفاً ثانوياً، أو على قائمة الانتظار كما كتب بعض الأصدقاء، وسأحاول هنا الإشارة إلى مجموعة العوامل التي دفعت للتقدم أكثر في قمة سوتشي بعد لقاء طهران الثلاثي الذي جمع بوتين ونطيره الإيراني إبراهيم رئيسي وأردوغان، ولا شك أن أسئلة كثيرة يطرحها على الطاولة الرأي العام السوري بشأن احتمالات الانفتاح في العلاقات السورية التركية التي كتبت عنها كثيراً قبل سنوات، وما أزال مؤمناً بأنه من دون فتح هذه البوابة لا إمكانية لاستقرار مستدام، ولا نهاية للإرهاب، وستبقى قوى عديدة صغيرة وكبيرة تلعب بمصائرنا ومستقبلنا الذي يجب أن نمتلك الشجاعة لتقريره بأنفسنا، وبمساعدة من حلفائنا وأصدقائنا.

الآن: ما الذي تغير حتى نعود للحديث عن هذه المسألة مرة أخرى بهذا الإصرار؟

هنا سأتحدث عن عوامل عدة، منها:

1- يولي الرئيس بوتين أهمية خاصة للعلاقة مع تركيا لكونها دولة إقليمية مهمة، وعضواً في حلف الناتو، إضافة لموقعها ووزنها، ويعمل على تدعيم موقع أردوغان، والاستفادة منه قبل الانتخابات المصيرية في حزيران 2023، وخاصة أنه يرى ويراقب أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة يريد الإطاحة بأردوغان في الانتخابات القادمة من خلال الدعم المباشر والعلني لتحالف الأحزاب التي تشكل جبهة المعارضة للنظام الحاكم، ولو كانت موسكو ترى في المعارضة التركية ورقة يمكن المراهنة عليها لفعلت ذلك، لكنها معارضة من الواضح أنها غربية الهوى والأداء، وهذا خيارها، لكن أوراقها جميعاً بيد الغرب، وهنا الخطورة في الأمر لأن هذا ليس من مصلحة موسكو.

2- أعطى بوتين الرئيس التركي أوراقاً اقتصادية مهمة في ملفات النفط والغاز بما في ذلك البيع بالروبل، ولاحقاً التبادل التجاري بالعملات المحلية، إضافة لضخ مليارات الدولارات في البنك المركزي التركي لمصلحة بناء محطة الطاقة النووية جنوب تركيا، ما سيساعد الرئيس التركي في تهدئة الأسواق، وتحسين سعر صرف الليرة، وتخفيف الأزمة الاقتصادية المتصاعدة قبل الانتخابات، وهو أحد أهم العوامل التي يحتاجها أردوغان لتحسين شعبيته التي تقول استطلاعات الرأي العام أنها تتراجع لأسباب كثيرة منها الاقتصاد.

وما من شك أن إيران تسير مع موسكو في الاتجاه والمسار نفسه، فالعلاقة الاقتصادية بين طهران وأنقرة تتطور بشكل مطّرد.

3- اعتقد أردوغان أن الانفتاح على السعودية والإمارات وإسرائيل ومصر، سوف يأتي له بنتائج مباشرة اقتصادية، لكن الواقع كشف أن هذا الأمر لم يحصل، لا بل إن إسرائيل ومصر مع اليونان وقبرص شكّلوا تحالفاً للغاز في شرق المتوسط لم تكن تركيا جزءاً منه، كما أن السعودية وبالاتفاق مع واشنطن لم تدعُ الرئيس التركي لقمة جدة مع الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو ما شكّل إشارة واضحة لأنقرة بأن واشنطن والاتحاد الأوروبي ليسا راضيين عن السلوك التركي في المنطقة وأوكرانيا، وأن أنقرة ذهبت بعيداً في العلاقات مع موسكو وطهران، كما ظهر هذا الاختلاف خلال المؤتمر الصحفي بين وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، ووزيرة الخارجية الألمانية بيربوك خلال زيارتها مؤخراً لأنقرة، والذي كاد يتحول لملاسنة بين الطرفين، وهذه إشارة أخرى.

4- يعمل الرئيس بوتين على موضوع الربط بين البحر الأسود والمتوسط، وهنا نذّكر بمشروع الرئيس بشار الأسد بالربط بين البحار الخمسة الذي طرحه قبل الحرب على سورية، وخاصة بعد اكتمال العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتبدو تركيا مهمة للغاية لأن الوصل بين البحرين يحتاج للمرور بمضيقي البوسفور والدردنيل، ويحتاج لعلاقة جيدة بين دمشق وأنقرة فيما يخص تشكيل تحالف لاستثمار الغاز في شرق المتوسط.

بعد قمة سوتشي الأخيرة سرت شائعات كثيرة في تركيا تتحدث عن اتصالات هاتفية بين الرئيسين الأسد وأردوغان، ونفتها المصادر السورية، وواضح تماماً أن هناك أطرافاً داخل تركيا نفسها تعمل بين الفينة والأخرى على رفع السقف والمبالغة في الأخبار في هذا الأمر، بهدف التعطيل، أو التعكير، وبنيات سيئة، وليست طيبة، وخاصة أن ملف العلاقات السورية التركية ملف معقد للغاية، وفيه كثير من نقاط الاختلاف، وسيشهد مداً وجزراً خلال المرحلة القادمة، وسأعرض هنا بعض هذه النقاط:

1- أعلنت دمشق أكثر من مرة أن على جيش الاحتلال التركي الانسحاب من الأراضي السورية، ووقف دعم الإرهاب، والتدخل بالشأن الداخلي السوري، وإثر ذلك يمكن إعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة ضمن إطار علاقات حسن الجوار بين أي بلدين جارين.

2- ترى دمشق أن المرحلة النهائية من تفاهمات سوتشي وأستانا، يجب أن تصل إلى عودة مؤسسات الدولة السورية، وانتشار الجيش العربي السوري، وإجراء مصالحات وطنية، لكن تركيا تحاول أن تحصل على مكاسب سياسية في سورية منها أن ما يسمونه حلاً سياسياً في القرار 2254 هو أساسي، وأنها ستقدم جدولاً زمنياً للانسحاب بعد بروز مخرجات واضحة من مسار جنيف ولجنة مناقشة الدستور، أي تعمل على الربط بين بقاء الاحتلال، وتحصيل ثمن سياسي لأدواتها، وهو ما ترفضه دمشق التي تعتبر أن المسار الدستوري هو شأن داخلي سوري، ويحتاج للتوافق بين السوريين، وليس مع تركيا، انطلاقاً من مبدأ السيادة الوطنية.

3- تبدو نقطة مكافحة الإرهاب خلافية، إذ ترى أنقرة أن ميليشيات «قسد» واجهة لحزب العمال الكردستاني وهي تنظيم إرهابي يجب مكافحته، وإنهاء وجوده، كما الحال بالنسبة لداعش، والقاعدة، أي إن هذه مجموعات إرهابية عابرة للحدود، على حين أنها تنظر لمجموعات إرهابية أخرى على أنها ذات طابع محلي، ولابد من دمجها لاحقاً بالحل السياسي، وتسميها معارضة معتدلة، باعتبار أنها تشارك في عملية أستانا، على حين ترى دمشق أن المجموعات الإرهابية في إدلب مثل جبهة النصرة، هي فرع من القاعدة، ولا يمكن تسويقها كمعارضة معتدلة حتى لو لبس الجولاني «الجينز» وظهر بلباس عصري، وبالتالي فإن أي تعاون سوري تركي يجب أن يشمل مكافحة الجماعات الإرهابية كلها، ولا داعي للتذاكي في هذه المسألة.

4- ترى أنقرة أن بقاء جيشها المحتل ضروري لاستمرار الاستقرار في المناطق التي احتلتها، وتأسيس ما تسميه منطقة آمنة ضرورة من ضرورات الأمن القومي التركي ريثما يتم التوافق على حل سياسي في سورية، وهنا ترفض دمشق ذلك بشكل مطلق، إذ إن بقاء قوات الاحتلال يتعارض مع السيادة الوطنية وقضية الحل السياسي شأن داخلي سوري لا يمكن رهنه لأي طرف آخر، وتخشى دمشق من أن أنقرة قد تماطل لخلق أمر واقع، وإحداث تغيير ديمغرافي، تبدو معالمه واضحة على الأرض، وإن كانت ما تسمى منطقة آمنة قد فشلت في التطبيق، نظراً لانتشار الفوضى والبلطجة، والفساد بين الأدوات التركية هناك.

5- ملف اللاجئين السوريين يعتبر ملفاً ضاغطاً على حكومة أردوغان، وتحول من ورقة بيد أنقرة لاستثماره سياسياً إلى ورقة ضاغطة على الحكومة التركية، وإلى نقطة تجاذب سياسي وليس إنسانياً بين الحزب الحاكم والمعارضة التركية، والمنطقي أن أي معالجة لهذا الملف تتطلب الحوار مع دمشق، وليس القفز إلى الأعلى بحركة بهلوانية لن تفيد تركيا بأي شيء، وهذا الملف يعتبر ملفاً حساساً بالنسبة للرأي العام التركي الذي يريد حلاً سريعاً له بهدف التخلص من أعبائه.

إن استعراض النقاط المذكورة أعلاه تظهر حجم التباينات بين دمشق وأنقرة، وخاصة أن دمشق هي صاحبة الحق والسيادة الوطنية، ومناورات أنقرة لن تفيد في تجاوز الخطوط الحمر السورية، وفي الوقت نفسه فإن التباينات والاختلافات لا يمكن حلها من خلال بيان من هنا وبيان من هناك، وإنما تصبح الحاجة هنا ملحة للجلوس إلى طاولة التفاوض والحوار، وهو ما يدفع إليه الرئيس بوتين، وأيضاً الحلفاء في طهران لما في ذلك من مصلحة مشتركة لكل الأطراف في ضوء التحولات والتطورات الجارية في المنطقة والعالم، وخاصة أن الأطراف المعادية لن تجلس لتتفرج على هذه التحولات، بل ستحاول بكل الطرق تأزيم الأوضاع في كل مكان، ونسف أي محاولات للتقارب بين الجيران أو بين دول وشعوب المنطقة، وهو الحل الوحيد والدرس المستخلص بعد عقد ونيف من الزمن، والدمار والمآسي، فسورية التي قاتلت بشعبها وجيشها وإمكاناتها، كل محاولات المس بوحدتها، أو تقسيم مجتمعها تمتلك القدرة، والإمكانية، والحجة، والحق للتفاوض، والحوار للحصول على حقوقها المشروعة.

يبقى السؤال: هل ستفتح البوابة السورية التركية؟ إجابتي: نعم، لأن فتح هذه البوابة والحوار المباشر بين البلدين، هو مصلحة لهما وللمنطقة وللشعبين، وبالطبع بهدف حصول سورية على حقوقها المشروعة والعادلة، أما كيف؟ فهذا أمر بيد القيادة السورية التي نثق بها، وباحترافيتها، وبنفسها الطويل، فالتراكم والمآسي التي حصلت في سورية لا يمكن حلها باتصال هاتفي كما يتوهم البعض، ولكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وأعتقد أن هذه الخطوة ليست بعيدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن