صدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب ضمن سلسلة «قضايا لغوية» كتيب «العربية وصراع المتوازنات» من تأليف د. محمد عبدو فلفل، يقع في 94 صفحة من القطع المتوسط.
في هذا الكتيب ثلاثة مباحث، الأول: العربية من وجهة موضوعية يعالج عوامل ثباتها وانحلالها، والثاني: العربية في مهب السياسة، والثالث: العربية من وجهة يابانية.
الجامع المشترك
إن الجامع المشترك بين ثلاثة البحوث التي يضمها هذا الكتيب هو الحرص على معالجة المسألة اللغوية العربية معالجة تتحلى بالموضوعية والواقعية والتشخيص العلمي بعيداً عن استنفار المشاعر ونسج الآمال التي يوضح الإقرار بالواقع أنها آمال بعيدة، أو متعذرة التحقيق ما لم يتغير كثير من القضايا الحاكمة في واقع الأمة والمتحكمة بمستقبلها.
أول البحوث يدلل على صحة مقولة مفادها أن العربية في مسيرتها التاريخية محكومة بصراع عوامل متناقضة ومتوازنة في الوقت نفسه، عوامل تعمل على ثباتها، وأخرى تعمل على تغييرها أو انحلالها، ونتيجة هذا الصراع حالة من ثبات العربية ثباتاً تاريخياً يدحض مزاعم الاندثار الوشيك للغة الضاد، ولكنه لا يعني في الوقت نفسه أنها حالة تدعو إلى الاطمئنان أو العمل بمقولة إن للبيت رباً يحميه.
أما ثاني البحوث الموسوم فيناقش ما قاله الدكتور عبد السلام المسدي في كتابه «الهوية العربية والأمن اللغوي» عن كون العربية محدداً أساسياً من محددات هوية الأمة، وعن مدى فاعلية صانعي القرار السياسي العربي في الحفاظ على لغة الضاد والنهوض بها.
أما الثالث فيلقي الضوء على موضوعية المستعرب الياباني توشيهيكو إيزوتسو في حديثه عن اللغة العربية عامة، ولاسيما دواعي اختيارها لتكون اللغة التي نزل بها القرآن الكريم.
عوامل الصمود
عدّد مؤلف الكتيب أهم العوامل التي تضمن للعربية الصمود والبقاء فهي أن العربية لغة القرآن الكريم، ومخزونها المعرفي وإرثها الحضاري، ورصيدها البشري، ونضجها وامتلاكها عناصر التجدد والتوليد، ومرجعيتها المعيارية.
أما العوامل الفاعلة في تغيير اللغة العربية أو التي تمثل معوقات لها في مسيرتها الحياتية فهي الإشكالية الحضارية للأمة العربية، وقصور في الوعي اللغوي والإعداد اللغوي، والزحام اللغوي، وقصور في الإملاء العربي.
مكونات الهوية
لا يفتأ الدكتور المسدي يردد أن اللغة العربية عنصر أساسي في هوية الأمة العربية، وفي معرض تحديده مكونات هذه الهوية أوضح أنها ثلاثة هي اللغة العربية والدين الإسلامي والسلالة مضافاً إليها الأرض والتاريخ.
لغة الوحي
في معرض حديثه عن اللغة العربية عالج توشيهيكو مسألة اختيارها لتكون لغة الوحي القرآن، ما يشي بأهميتها لديه، واللافت أيضاً أن معالجته لها كانت موضوعية وظيفية بعيدة عما يعرف بالتحيز اللغوي بقوله: «تقوم النظرة القرآنية إلى هذه المسألة على الوعي الثقافي الواضح جداً، أن كل أمة لها لغتها، وأن العربية لغة العرب، وهي بهذه الوظيفة واحدة فقط من لغات كثيرة، وإذا اختار اللـه تعالى هذه اللغة فإن ذلك لم يكن بسبب قيمتها الحقيقية من حيث لغة، بل بسبب فائدتها ونفعها، أي بسبب أن الرسالة كانت موجهة أولاً إلى المتكلمين بالعربية، ونرى أن القرآن نفسه يعلن أن هذا الكتاب أنزل بالعربية فقط لتسهيل الفهم «إنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون»، ويؤيد القرآن نفسه ما ذهب إليه توشيهيكو بقوله تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم».
ويشير توشيهيكو إلى نضج العربية التركيبي وإلى كونها من أهم اللغات الثقافية في العالم فيقول: «إن العربية في ذروة العصر العباسي تغدو لغة ثقافية ومنظمة جداً، إنها إحدى اللغات الأكثر أهمية بين كل اللغات الثقافية في العالم، ولا يكمن ثراؤهما في العدد المذهل للمفردات فقط، بل أولاً وقبل كل شيء في عدد الترابطات المفهومية وتعقيدها، أي المنظومات التي تشكلها فيما بينها، والمعجم الفلسفي واحد منها».