ثقافة وفن

ناظم الجعفري أول مشهد لرسام يقف بين الناس … وجدتني في دمشق ألاحقها ولا أفارقها في حاراتها وأزقتها في لوحتي .. لم يدرسني ناظم الجعفري ولم يدر بيننا حديث لكنه الفنان المعلم كما أراه

| سعد القاسم

يصح وصف ناظم الجعفري بأنه رسام دمشق، فقد كرس موهبته لها، حتى فاق عدد لوحاته ورسوماته عنها أربعة آلاف لوحة ورسماً. في حديث له نشره د. غازي الخالدي في كتابه (ناظم الجعفري – المؤسس الرائد) الصادر عن وزارة الثقافة في دمشق عام 2006 يقول الجعفري: «وجدتني في دمشق، لا أفارقها، ألاحقها في حاراتها وبيوتها وأسواقها وحماماتها وسبلها المائية، وقد اختفت هذه المعالم تقريباً فأعدتها برسمي وتصويري، بلوحاتي الزيتية، إلى ما كانت عليه وهي مملوءة ماء، وحتى أبواب دورها، وأبواب سورها القديم إضافة إلى جوامعها وكنائسها وآثارها الإسلامية وطواحينها ومهنها اليدوية، بل انفردت بمزاليج أبواب دورها..».

مسحت دمشق كاملة

وفي وقت سابق، وخلال أحد اللقاءات الصحفية النادرة التي تمت معه بمبادرة المرحوم ياسر عبد ربه رئيس تحرير مجلة (الشهر)، وحاوره فيها الزميل إسماعيل مروة، قال: «مسحت دمشق كاملة في لوحاتي.. كانت الأشياء على جمالها، ولم تكن قد امتدت إليها يد التهديم والتغيير والارتباط بالحضارة الأوروبية. لو خرجت جداتنا ومشين بين اللوحات، لما وجدن شيئاً غريباً، وعرفن كل مكان وكل الأشخاص».

لست أذكر بالدقة متى شاهدت ناظم الجعفري أول مرة. ربما كان ذلك في مطلع الستينيات. لكني لا أنسى منذ تلك اللحظة صورته التي انطبعت في عمق الذاكرة فلم تستطع أي صورة سواها الحلول محلها، أو تسبقها إلى ساحة التذكر حين يكون الحديث عن الفن التشكيلي، أو الفنان التشكيلي.

هل أبالغ أم هي مجاملة أوجدتها مناسبة الكتابة؟

لا هذه ولا تلك…

عند مفترق اللوحة

كنت بالكاد أصل خواتم العقد الأول من عمري حين استوقفني مشهد كان هو الأساس فيه. رجل في زهوة عمره وأوج أناقته، يقف عند مفترق طرق في مطلع حي المهاجرين في دمشق يحمل في يده دفتراً كبيراً، فيما عيناه تجيلان النظر بين بيوت قديمة وأوراق الدفتر، ويده تدون برشاقة ملاحظات سريعة.

اختلس فضول الطفولة نظرة إلى الملاحظات فكانت المفاجأة أنها ليست كلمات، وإنما خطوط بارعة تنقل النوافذ والجدران والأبواب إلى الأوراق الناصعة البياض. تبدل الفضول إلى دهشة. وغياب أي رد فعل من الرجل شجع على الاقتراب أكثر، وتأمل (الرسمة) وهي تكتمل بملامحه التامة وتفاصيلها الدقيقة، وروعتها.

أطفال ومشهد

ما هي إلا لحظات حتى كان أطفال وفتية كثر جذبهم المشهد قد تحلقوا حول الرجل. استغرق بعضهم بتأمل ربطة عنقه الأنيقة، وشعره المنسحب من على قمة رأسه ليجتمع بكثافة على الجانبين. و(البروش) الذهبي الأنيق والصغير للوحة الألوان والفرشاة التي ترمز إلى فن الرسم بألوان الزيت. والتي كان علينا أن ننتظر سنوات عديدة لنعرف أنهم يسمونها (باليت) أو (باليتا).

أنجز الرجل (رسمته) ثم قلب الصفحة واستدار في مكانه نصف دورة، لينقل إلى الورق الأبيض مشهداً آخر، فتغيرت الجهة التي تتجه إليها أنظار الجميع، والخطوط التي تُرسم ببراعة على الورق. وازداد عدد الفضوليين والمندهشين والمعجبين. شيء وحيد لم يتغير: استغراق الفنان مع لوحته. وكأنه وإياها وحيدان معزولان عن الصخب المتنامي.

حين حدثنا أهالينا بعد ذلك عما شاهدنا. سمع الجميع تقريباً التعليق ذاته:

– «إنه ناظم الجعفري»

براعة وجمال

بعد ذلك صار وقوف الجعفري في أي مكان يجذبنا للاستمتاع ببراعته، وأيضاً لنكتشف الجمال في أماكن كنا نمر فيها وقربها من دون أن تلفت انتباهنا. وظل هو كما هو. لا شيء ينجح في انتزاعه من حالته الصوفية الإبداعية. لا تعابير الدهشة ولا كلمات الإعجاب التي كنا نتهامس بها بصوت مرتفع عله يلتفت إلينا. ولا حتى الاستفزازات الصغيرة من مراهق جاهل لم يدرك بعد أهمية ما يرى.

حين زرت جناح الفن الحديث في المتحف الوطني في دمشق لأول مرة بعد ذلك بسنوات طويلة وجدت نفسي منجذبا نحو لوحات الجعفري. لا أعرف أي شعور انتابني وأنا أتأمل البيوت الشبيهة بتلك التي كان يرسمها حين شاهدته للمرة الأولى. أحسست أن شيئاً ما يخصني في هذه اللوحات. وأنني شريك بها بشكل ما. كانت فرصة عظيمة الأهمية لطالب فنون أن يقارن بين بدايات العمل الإبداعي، وإنجازه النهائي، بين الخطوط الرشيقة الأولى التي ترسم الإسكتش، وبين اللوحة المكتملة المتماسكة الجديرة بأن توضع في المتحف.

الجعفري والتشكيلي السوري

بعد عدد آخر من السنوات، وكنا قد بدأنا في نقابة الفنون الجميلة بإصدار مجلة (التشكيلي السوري)، أخبرت الزملاء في أسرة التحرير أننا سنقدم مع العدد الثاني كهدية للقراء لوحة لناظم الجعفري. كانت أعمال الجعفري بعيدة عن عيون المشاهد منذ سنوات كثيرة انقطع فيها عن المشاركة بالمعارض. ومع هذا لم يوح أحد من أعضاء أسرة التحرير بأن الفكرة كانت مفاجئة، بل بخلاف ذلك تماما كان الترحيب الحار بها فاتحة حديث طويل عن الجعفري وتجربته المتفردة وتاريخه الإبداعي. كنا قد غادرنا كلية الفنون الجميلة منذ وقت طويل، وصرنا قادرين على النظر إليها بعين منصفة. وتطوع المرحوم فيصل العجمي (نقيب الفنون الجميلة يومذاك) بأخذ موافقة الجعفري على ذلك. وكنا سعداء حقاً حين أرفق موافقته بصورة عالية الدقة عن لوحته (القوافين) طالباً اعتمادها، لأنه يراها تعبر عن أسلوبه وتجربته، وهذا ما حصل.

حين إعداد الدكتور غازي الخالدي لكتابه آنف الذكر، طلب مني نصاً عن الجعفري، فأشرت فيه إلى الأهمية الاستثنائية لوجود فنان كناظم الجعفري في كلية الفنون، وكان في بعض الحديث شيء من الأسف، وبعض من الحسد تجاه زملاء حظوا بفرصة التعلم على يديه. وقدمت النص بالقول: «لم يدرّسني ناظم الجعفري يوماً.. ولم يدر أي حديث بيننا في أي وقت. ومع ذلك فأنا واحد من كثيرين ينظرون إليه على أنه الفنان المعلم».

إلى ما سبق قد يكون الجعفري محور الآراء المتباينة حول تعليم الفن، وحول الفن. كما بدا جلياً من الآراء التي قيلت حوله، وقد ضمت قسماً كبيراً منها مقالة ثرية ومهمة للفنان بطرس المعري نشرها إثر رحيل المعلم الجعفري. وهي منطلق الحديث القادم عن الدور والأسلوب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن