كالنار في الهشيم ينتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقال بعنوان «سافر دون تردد» يقلد كاتبه أسلوب المبدع الكبير محمد الماغوط ويحرض الناس على الهجرة بقوله: «أنقذ ما تبقى من سنين عمركَ المهدور…» ثم يتغنى برقي الغرب وتردي واقعنا.
لست أخالف الكاتب بأن الواقع العربي الراهن ينحدر من سيئ إلى أسوأ، لكنني أختلف معه كلياً في زعمه أن «الـ 6000 آلاف سنة حضارة» هي كذبة، وأن بلادنا «صفراء وليست خضراء»! كما أرفض زعمه بأننا «عبء على البشرية وعلى الحضارة الإنسانية وحتى على أنفسنا»!
عندما انتهيت من قراءة المقال انتابني إحساس أنه ليس للماغوط لا بسبب سوداويته المفرطة، فقد كانت كوميديا الماغوط موجودة كذلك في بعض الأحيان، بل بسبب روح كاتب المقال المنبطحة أمام نبل الغرب وجماله وجلاله، وهذه روح غريبة عن الماغوط كلياً!
وقد ازداد إحساسي قوة عندما وجدت المقال نفسه منشوراً بأسماء أخرى، والحق أنني استغربت عندما قام سفير سوري سابق رصين لم يعرف عنه التهويل والتهويش بنشر ذلك النص على صفحته، نقلاً عن صفحة مهاجرة تدعى (سوزان ميسوم) وقدم له بقوله: «بعد أن يغادروا لأسباب متنوعة من المفيد أن نقرأ ماذا يكتشفون، عسى نعمل على إصلاح ما فسُد فينا»!
لكنني استعدت ثقتي بحدسي تماماً عندما قرأت لسان حال للصديق المحامي ناصر الماغوط الذي هو أحد أقارب الماغوط المقربين منه والذي ينفي فيه علاقة الماغوط بهذا المقال، قائلاً بالفم الملآن: «أتحدى أحداً أن يقول لي بأن هذا المقال موجود في كتاب «سأخون وطني» أو «سياف الزهور» أو «البدوي الأحمر» أو «شرق عدن غرب الله». هذه الكتب الأربعة هي الوحيدة التي نشر فيها الماغوط مقالات».
مالا شك فيه هو أن الماغوط كان ينتقد بحدة وتشاؤم واقع الأنظمة والمجتمعات العربية غير أن دافعه لم يكن الهدم بل البناء. وهو عندما ينتقد الحكومات لا يدعو لخيانة الأوطان بل لبنائها، وعندما ينتقد سلبية المجتمع وعدم قدرة العربي على الوقوف بالدور، فهو بذلك يدعوه لاحترام نفسه واحترام الآخر من خلال التقيد بالنظام.
عندما نشر الماغوط كتابه الأشهر «سأخون وطني» قام بعض ذوي العقول المسطحة بمنع الكتاب من التداول، «فهموه» كدعوة للخيانة! غافلين أو متغافلين عن حقيقة أن الخيانات لا يعلن عنها بل تتم في صمت. ما قصده الماغوط من خلال عنوان كتابه الصادم هو أن يهدد المسؤولين العرب، بأنهم يدفعون مواطنيهم لأن يكفروا بأوطانهم، وأن الحال إذا استمر على ما هو عليه فإنهم بذلك يدفعون المواطن العادي الذي يتكلم الماغوط باسمه لأن يخون وطنه!
لقد أجاد الماغوط استخدام صدمة الكتابة الساخرة التي تقوم على المدهش وغير المتوقع وتمزج المبكي بالمضحك ومرارة الواقع بحلاوة الحلم. صحيح أن الماغوط أعلن كفره بواقع الأمة، لكنه لم يكفر بالأمة، ولم يحرض أبناءها على الهجرة والتخلي عنها، بل حفزهم على تغيير واقعها.
يقول الماغوط: «يا إلهي، كل الأوطان تنام وتنامُ، وفي اللحظة الحاسمة تستيقظ، إلا الوطن العربي فيستيقظ ويستيقظ، وفي اللحظة الحاسمة ينام».
يقول الماغوط أيضاً: «أخاف وفرائصي ترتعد من كل خطوة أو نظرة أو رنة هاتف. تأكد أن عندي في أعماقي احتياطياً من الخوف، أكبر مما عند السعودية وفنزويلا من احتياطي النفط».. لقد واجه الماغوط خوفه بالكتابة وانتصر عليه وهو لم يناشد العرب التخلي عن أوطانهم بل ناشد الحكام العرب: «جربوا الحرية يوماً واحداً لتروا كم هي شعوبكم كبيرة وكم هي إسرائيل صغيرة».