ثقافة وفن

شاعر الحداثة يوسف الخال.. «شعر» وبحث في الوجود … «والحاملوك يعرفون لا يشيّعون أحداً.. قايين لا يموت!» .. أعطى ثورة الشعر حياته فبقي وتناثرت ثورته

| إسماعيل مروة

يوسف الخال.. الشاعر الكبير، وصاحب علامة فاصلة في الشعر الحديث يؤرخ المؤرخون والأساتذة للشعر الحديث، فمجلة شعر هي الحد الفاصل، والنهضة الشعرية الحديثة، والمجلة الأدبية المتخصصة التي دفعت بأصوات كثيرة لإنعاش الشعر، وهي الجائزة للشعر ونهضته، وهي الدار لنشره وتعميمه، جمعت إلى يوسف الخال الأب والمؤسس والحاضن أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وسنية صالح وآخرين من الأصوات الشعرية التي رجّت الوسط الشعري، وحاولت أن تعمم القصيدة الحديثة بأي اسم كانت، ومنها انبعث (حزن في ضوء القمر) انتشر هؤلاء الكبار، وحملوا الأسماء التي يستحقونها، وكثيرون لا يعرفون قيمة يوسف الخال ومجلته (شعر) ودار نشره (شعر) وجائزته الدورية، بل يغيب عن الكثيرين صوت يوسف الخال الشعري الكبير، الذي إذا ما قرأناه عرفناه النبع والإلهام للقصيدة الحديثة.

يوسف الخال والمهمة

إذا ما قرأنا أي كتاب نقدي يرصد الحركة الشعرية الحديثة، فإننا نجده يقف عند مجلة شعر 1958 ودورها التنويري من جانب، ودورها التهديمي من زاوية بعض النقاد الذين يرفضون الحداثة الشعرية، وللحق فإن مجلة شعر كانت منبراً ومنتدى وأشياء كثيرة، وقدّمت ثورة شعرية حقيقية جوبهت بالكثير من القسوة التي نالت صاحب المشروع والمتحمل لأعبائه وتكاليفه والمشرف عليه يوسف الخال الشاعر الكبير والمؤمن بالإعلام ودوره لذلك حرص على دوره وانهالت الاتهامات على الشاعر ومشروعه ومجلته، وبأنه القادم من الغرب لهدم الشعر العربي واللغة العربية ودون أن نجد قراءة في النص، وعند ما تبدأ المعركة بالتخوين ينتهي الكلام، ويضيع النص.

ومن نقاشات عديدة، ومن ضعف حجة الذين يدافعون عن تجربة شعر وجدتني أبحث عن شعر يوسف الخال، فكانت الأعمال الكاملة التي تكرمت السيدة الشاعرة مها بيرقدار بإهدائها تنتظر قراءة، فعدت للديوان لأقرأ شعراً مختلفاً ومتفوقاً من حيث الشكل والفكر، ويظهر أن الحداثة نموذج فكر وليست خروجاً عن الشكل فقط، وفي شعر يوسف الخال تبدو صورة الحداثة في أكمل صورها، وفي قصيدته (الحرية) يعبر أفضل تعبير عن حرية الإنسان وحرية الفكر.

أين عهدٌ غيّبت حريتي فيه
بسجن من التقاليد قاسي
أخنق الفكر إن تعدى حدوداً
رسمتها، من قبل، أيدي الأناس
فالضحايا باسم الكنيسة والدين
ترامت مخنوقة الأنفاس

إن ما ينشده الشاعر هو الحرية بمعناها الحقيقي، ويبلغ الجرأة في منتهاها حين يعدّ الأتباع بلا حرية للكنيسة والدين هم الضحايا، ويصورها صورة مأساوية قاسية حين تترامى مكتومة الأنفاس، لكنه في القصيدة نفسها يبدأ مخاطباً الرب الذي لا ينكره، يخاطبه بالحرية، فهل كان يخاطبه ليرجو خلاصاً من فعل الكهنوت؟

أنا حرّ يا رب، حرّ. لي العتمة
مسرى، وملعب الشمس معنى
أتملى وجه الحقيقة أيان
تراءى، وأي فعل تبنى
فأحيك الرؤى، رؤى العقل، فكر

تعدّ قصيدة الحرية من أجمل نصوص يوسف الخال، ومن أجل النصوص في الموضوع الذي تعالجه، وقد نشرت أول مرة عام 1944، وحملت المجموعة الشعرية الأولى له هذا الاسم للدلالة على جوهر ما يبحث عنه الشاعر، وإن كان قد نهل من الثقافة الغربية وعاد إلى لبنان ليؤسس لثقافة عربية شعرية حديثة، فهذا لا ينال منه، خاصة بعد أن نقرأ شعره لنتبين الآلية التي عالج بها معضلات المجتمع العربي وبشكل يختلف اختلافاً كلياً عما رآه هناك.

المحبة تقابل القوة

في بحثه المبكر عن الخلاص والحرية، وقبل ثمانية عقود من اليوم يقف يوسف الخال بقامته ليحدد الطرق إلى الخلاص، والتي تتمثل بالحب والعقل، فالحب غاية، والوصول إليه يكون بإعمال العقل، ويربط بين الحب والعقل في علاقة جدلية غير قابلة للفصام:

ربّ هبني محبة، فيها أدرك
حريتي وأعرف نفسي
أنا، إن لا أحب، ما نفع عقلي
لخلاص، وباطلٌ كل يأسي

ويحدد الشاعر في قصيدته الفارقة أن هذا العالم المصنوع هو عالم إنساني، وهو من إرادة الإنسان لا من إرادة الرب، فالخوف والإرهاب الفكري وضياع المحبة، وخدمة القوة بدل المحبة هي أمور فعلها الإنسان بنفسه، وكأنه يرجو المغفرة على ما أحاط الإنسان حياته:

أنا في عالم من الخوف والإرهاب
صنع الفناء، صنع يديا
زائغ يحسب المحبة وهماً
والتفاني في خدمة الحق غيّا
جائع ظن قوته ثروة الأرض
وما كان جوعه جسدياً

ما بين الروح، والجسد تدور نوازع الإنسان وبحثه عن خيره وشره في سباق محموم بين المصلحة والإنسانية، بين القوة والحب، وإنها لمفارقة كبيرة أن يرى الإنسان طريقه الحقيقي وهماً ويسلك سواه.

المسلك الوعر

وعندما يتناول يوسف الخال حال المجتمع، لا يواجهه بعدم الوعي وفقده للبصر، بل يرسم لوحة على لسان المتحدث ليقول ما يريد، أبحث عن أحد يبصرني، والمتحدث يتصف بالعمى، فالعماوة والغشاوة هي المهيمنة والمسيطرة على العالم، فالفيء الربع الغالي، والعالم امرأة، والفرق في الجسد.

أعمى
أبحث عن أحد يبصرني
عن شيء أحسبه عندي
هذا العالم أنثى
لعبت بالغيمة فاضطجعت
فيئاً في الربع الخالي
أحويك وأعلم أن الجمر
يبردني أسحب أنفاسي ودمي
أغرق في وهج
في حمزة عرسٍ في أبد
أغرق في جسدِ

صورة تنبض بالمعرفة، والقدرة على الإحاطة بالعالم، والنظرة الحداثية للعالم شعراً، ومن هنا يمكن أن يتم النظر إلى الحداثة والقصيدة الحديثة وليس من منظور تهديمي كما يحاول كثيرون تصويره، فالربع الخالي هنا، والعمى هنا، والغرق في الجسد هنا، والصورة الحداثية هي التي أعطت الشعر جمالية.

الموروث والحداثة

ومفهوم المجد الديني الراسخ والذي نعتقده جميعاً ينقله يوسف الخال بمفارقة لغوية وشعرية إلى أمجاد الأرض لينتقل من مجد إلى مجد وهو يرقب تنقلات الإنسان.

المجد للرغيف يستدير
قمراً، يقدم النعاس
للجفون للجياع كذبة
عريضة
سلوى من السماء
والمجد للواتي
يسلبن من عيوننا الضياء
والأمل السحيق أن
يجيء موعد
وينتهي
ونحن للمسير جبهة
وركبتان
والمجد للذي
يعانق الحرير، للذي
يجوف المكان

وبين الأمس واليوم يرسم صورة كأنها اليوم قيلت عن الوهم والظن والحياة والأمل والخيبات المتتالية ليقول:

غدي، يا غد الوهم والظن
والأمل المجدب
سقيتك ذوب رجائي الوحيد
فلم تشرب
وخلتك دنيا فتون
تعج على ملعبي
وتفرش دربي وروداً
وترقص في موكبي

يوسف الخال الشاعر أحد آباء الحداثة الشعرية شكلاً ومضموناً، وفي شعره صورة أخرى راقية ومحببة عن هذه الحداثة من حيث الاستلهام والتوظيف والقدرة على المعايشة المختلفة.. سواء كانت قادمة من نيويورك أم بيروت هي صورة للحداثة التي نحتاجها، وكانت قادرة على الوصول إلى منعرجات أخرى أكثر عمقاً في بنية الأدب والمجتمع على السواء.

ما بين ضفتي
فنائك العظيم، جاهلاً
أيان تنتمي
والحاملوك يعرفون لا يشيعون
أحداً: قايين لا يموت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن