مسيرة الهند نحو «الاعتماد على الذات «Aatmanirbharta»
| الدكتور موهان كومار - سفير هندي سابق وأكاديمي متفرغ
كان ذلك في أيار 2020 عندما وجه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا دامودارداس مودي نـداء واضحاً إلى الهنـد هـو نـداء «الاعتماد على الذات /Aatmanirbharta»، ومن المهم توضيح ما يعنيه ذلك وما لا يعنيه، ففي حين أن الترجمة التقريبية للكلمة هي بلا شك «الاعتماد على الذات»، فإنها مع ذلك ليست نوع الاعتماد على الذات الذي يمكن القول: إن الهند آمنت به ومارسته في السنوات الأولى من استقلالها حتى السبعينيات والثمانينيات. ومن السهل أيضاً تحديد ما لا تعنيه هذه الكلمـة، فهي بالتأكيد لا تعنى الاكتفاء الاقتصادي بشكل كامل، ومن المؤكد أنها لا تعني توخي المصلحة الذاتية، وهي بالتأكيد لا تعني إيقاف الاستيراد وصنع كل منتج في المنزل، فمن الحكمة أن نفكر في «Aatmanirbharta» على أنها المرحلة الثانية من الاعتماد على الذات.
في هذا الإطار من المرحلة الثانية من الاعتماد على الذات، أوضح رئيس الوزراء أنه بدلاً من أن تتمحور حول الذات، ستنفتح الهند أكثر على العالم الخارجي، مسترشدة بشعارها: «العالم أسرة واحدة / Vasudhaiva Kutumbakam».
وتابع رئيس الوزراء مودي ليقول: إن «الاعتماد على الذات» سيقوم على خمس ركائز هي: الاقتصاد، البنية التحتية، التكنولوجيا، الديموغرافيا، الطلب، وأوضح سبب وجـود «الاعتماد على الذات» بقوله إنه يجب أن يتم إعداد الهند للمشاركة في سلاسل التوريد العالمية وأن هذه هي المعركة التي من غير المقبول للهند أن تخسرها.
ليس هناك شك في أن الوباء العالمي، مثل «كوفيد 19»، لعب دوراً مهماً في دفع الهند للمرحلة الثانية من «الاعتماد على الذات»، فعلى سبيل المثال معدات الحماية الشخصية «PPE» وكمامات 95 N، ففي بداية الوباء لم تكن الهند تصنع أي كمامات 95 N، في حين اليوم تصنع الهند يومياً ما لا يقل عن 200.000 كمامة، إن لم يكن أكثر.
ولعل الأكثر إثارة للإعجاب هو سجل الهند الخاص بتلقيح العدد الهائل من سكانها، ففي عام 2020، عندما ظهر «كوفيد 19» لم يستطع أحد أن يصدق بأن الهند ستقوم بتلقيح سكانها بالكامل، ذلك أن القيام بمثل هذا العمل قد يستغرق سنوات وسنوات، ومع ذلك ففي شهر تموز 2022، أي بعـد نحو 18 شهراً مـن بـدء التلقيح الأول، أتمت الهند إعطاء 2 مليار جرعة من اللقاحات لمواطنيها، وبالتالي فإن قصة إنجاز مثل هذا العمل تستحق أن تكون قضية للدراسة تتناول قضايا حيوية مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والتعاون بين المراكز والدولة ولا ننسى أيضاً بناء الوعي بيـن المواطنين والحصول على مشاركتهم عن طيب خاطر في هذا العمل.
بالطبع، أشادت منظمة الصحة العالمية وغيرها، بالهنـد، وسيتم الاقتداء في جميع أنحاء العالم بأفضل ما تمت ممارسته هنا، ولإثبات أن المرحلة الثانية من الاعتماد على الذات
«Self Reliance 2.0» ليست للهنود فقط، فقد صدرت الهند أيضاً عدداً كبيراً من اللقاحات ومعدات الوقاية الشخصية «PPE» إلى دول في جميع أنحاء العالم.
إن أحدث الإحصائيات من موقع وزارة الشؤون الخارجية تتحدث عن 240 مليون لقاح تقريباً، تم تسليمها إلى 101 دولة، منها دول متطورة ونامية وأقل نمواً، وإن قصة كون الهند صيدلية العالم معروفة جيداً لدرجـة أنه لا ينبغي تكرارها هنا، كل هذا هو «الاعتماد على الذات» الحقيقي في العمل.
منصة «COWIN» وهي لتحميل شهادة اللقاح، التي استخدمتها الهند لتوزيع اللقاحات على العدد الهائل من سكانها، كانت رائعة، حيث إن «COWIN» هي في الأساس حال تكنولوجيا معلومات قائم على برنامج Cloud-based لتخطيط وتنفيذ ومراقبة وتقييم اللقاح ضد فيروس «كوفيد 19» في الهند، وبحلول تموز 2021، قررت الهند أن تجعل «COWIN» منصـة مفتوحة ومتاحاً استخدامها لجميع البلدان، وفي اجتماع «COWIN» العالمي الذي تم تنظيمه في تموز 2021، أعربت مـا يـصـل إلى 142 دولة في العالم عن اهتمامها بتبني هذه المنصة، فمرة أخرى، هذا هو «الاعتماد على الذات» في العمل.
لقد كان للحرب في أوكرانيا تأثيراً عميقاً ليس فقط في أوروبا، ولكن الأهم من ذلك وعلى وجه الخصوص، على البلدان النامية والأقل نمواً، فلقد أثرت الحرب بشكل سلبي على أسعار المواد الغذائية والطاقة والسلع، ومن المتوقع أن يؤثر نقص القمح بشكل كبير على وجه الخصوص على إفريقيا والشرق الأوسط.
في مثل هذا الوقت، ما يعزينـا هـو معرفة أن وضع الهند عندما يتعلق الأمر بالأمن الغذائي لعدد سكانها الضخم هو وضع مرضٍ وهذا مظهر آخـر مـن مظاهر المرحلة الثانية من «الاعتماد على الذات».
في الواقع، لم تكن الهند فقط قادرة على التبرع بالحبوب الغذائيـة والعـدس إلى 800 مليون من مواطنيها كجزء من خطط رئيس الوزراء لرعايـة الفقراء، بل كانت أيضاً قادرة على تنفيذ صادرات متواضعة من الحبوب الغذائية إلى البلدان منخفضة الدخل التي تحتاج إليها، ومرة أخرى، هذا هو «الاعتماد على الذات» في العمل.
قصة نجاح أخرى مذهلة لـ«الاعتماد على الذات» هي قصة واجهة المدفوعات الموحدة «UPI» وهي عبارة عن بوابة دفع رقمية مركزية مدعومة من الحكومة، ولفهم أهمية الـ«UPI»، ضع في اعتبارك ما يلي: استحوذت الهند على أكبر عدد من المعاملات الرقمية في جميع أنحاء العالم في عام 2021 عند وصولها لـ48 ملياراً، وهو رقم أكبر بثلاث مرات تقريباً من الصين (18 ملياراً) وست مرات على الأقل من معاملات الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا مجتمعة، وتقول الأصوات في الولايات المتحدة إننا يجب أن نتعلم من الهند التي تقفز إلى المستقبل. هذا هو «الاعتماد على الذات» في العمل.
ما ورد أعلاه لا يوحي بأن كل شيء على ما يرام، إذ إن الهند تواجه تحديات ضخمة فيما يتعلق بالقضاء علـى الفقر وخلق فرص العمل والاستثمار في الصحة والتعليم والمهارات لعدد سكانها الهائل، لكن الدروس واضحة: الهند فريدة من نوعها والنموذج «الهندي» هو النموذج الوحيد الملائم الذي سيفي بالغرض بالنسبة للهند والهنود، ومن هنا تأتي الأهمية الكبرى لـ«الاعتماد على الذات».
بعد كـل هـذا، وكما رأينا أعلاه، فإن «الاعتماد على الذات» في الهند ليس مفيداً للهند فحسب، بل وأيضاً للعالم بأسره.