يعرض لك وأنت تدرس حياة المبدعين العديد من الطرائف الغريبة غير المقبولة، وهذه الأشياء لا نجدها إلا في ثقافتنا العربية، سواء كانت إسلامية أم غير إسلامية، فثقافتنا على اختلاف توجهاتها تتفق في قضايا لا يقبل أن تكون!
ففي الوقت الذي يجلس واحد للحديث عن شوقي، ويجنح، وربما يؤلف، وربما يتوهم، ويصفه بما ليس فيه، إلى حد أن يتحدث عن احتمال غير سوي في حياته وشرابه، ويتحدث عن حافظ إبراهيم بهذه الطريقة أيضاً، وعن فخري البارودي ونزار قباني وبدوي الجبل، في هذا الوقت نفسه لا يقبل فيه الحديث بالطريقة التشريحية ذاتها عن كمال ناصر أو غسان كنفاني أو سواهما، وليس القبول والرفض لأسباب دينية أو اجتماعية، وليس لأسباب نقدية في الوقت نفسه، وإنما لأسباب غير منطقية على الإطلاق، وهي تتلخص في أن الواحد من هؤلاء يجمع ما بين الأدب والنضال، وهذا ما يكسبه في نظر محبيه القداسة والإجلال كما يظنون، وهم لا يعلمون أنهم يسلبونه أجمل خصائصه وهي الإنسانية التي عاشها وأحبها، لذا تجد من ينبري ويدافع عن هذا المناضل، ويحاول أن ينزهه عن الحبّ وكأن الحب خطيئة! ويرفعه عن الحياة الطبيعية، وكأن هؤلاء لا يعيشون الحياة بشكل طبيعي وانسيابي، ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في الدراما التي تقوم بتعقيم الشخصيات بطرائق مسيئة ومسفة، كما حصل مع أم كلثوم عندما كتب محفوظ عبد الرحمن السيناريست الكبير سيرتها في مسلسل لم ترتكب منه أي مظهر من مظاهر البغض والشحناء والتآمر، وكأنها رسول جاء إلى أرضنا بكل ما فيه من نقاء وصفاء نية، وما كان للعمل أن يمر لولا أنه كان كذلك.
وللقادة مكان
وفيلم ناصر 56 لمحفوظ عبد الرحمن أيضاً كان على النهج نفسه في إخفاء أي جانب من الجوانب السلبية، وحين قام المخرج السوري الكبير أنور القوادري كما أذكر بإنجاز فيلم عن عبد الناصر، أذكر أنه اختلف مع أسرته حول ظهوره ببجامة النوم..! فهل كان ينام في بدلته العسكرية أو بطقمه الرسمي؟ في حين يسهم تقديمه بالطريقة العادية السلسة بإبراز إنسانيته وعواطفه والمؤثرات فيه، والتي يمكن أن تشكل أمثولة كما قال الأبنودي عنه «أبوك حسين جابك منين» نكهة البلد.
والذي أعاد هذا الموضوع وذكرني به هو الحديث مع الأساتذة عن الراحل غسان كنفاني، وجاء الحديث عن حياته، وتطرقنا لعلاقته الوطيدة بالأديبة الرائعة غادة السمان، فتشعب الحديث، وجلّهم تهجم على غادة السمان وعلى كتابها (رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان) وعدّوا ذلك إساءة للكاتب الكبير والمناضل الذي أعطى حياته وروحه للقضية الفلسطينية!
نعم أعطى القضية حياته وروحه، ولكن ما الذي يمنع أن يكون قد عاش إنساناً يحب ويكره، ويعشق، ويسمو بعشقه؟
المناضل العاشق
حين صدرت رسائل غسان كنفاني عن دار الطليعة، ونشرتها غادة بنفسها شن الأدباء هجوماً عنيفاً على غادة، لأنها تسيء إلى غسان المناضل، ولم يدركوا أنها وحدها التي خلدته وجعلته في مرتبة عليا بالعشق، وأظهرت الأسباب التي جعلت كنفاني مبدعاً وكبيراً ومتجدداً.. وحين طلب من غادة السمان أن تنشر رسائلها إليه، قالت وهي صادقة، بأن رسائلها محفوظة لدى غسان وأسرته، وهي على استعداد لنشرها كما نشرت رسائله، لأن التقانة في ذلك الوقت لم تكن عالية، وهي لم تحتفظ بصورة عنها.. لكن أسرته لم تقم بنشر الرسائل وإظهارها، وغادة السمان نشرت الرسائل مطبوعة ومصورة عن خطه وبالتاريخ، والورق المتوفر له عند كتابة الرسالة، وبكل عفوية من دون حذف حرف قد يكون مسيئاً للمرأة أكثر من الرجل!
من قال لهؤلاء بأن المبدعين والمناضلين لهم من الأطوار ما نستغربه؟
لهم أيامهم وذكرياتهم
من قال لهم بأنهم لا يعشقون؟ من قال لهم بأنهم لا يملكون حياة ثانية يعرفها قلة من الناس؟ وهذا كله لو عرفه الناس لارتفع مستوى المناضل والأديب مرتبة أعلى مما هي عليه، فبذلك تثبت انسانية وتظهر المؤثرات الحقيقية في كل ما كان منه في حياته طالت أم قصرت.
ليست هؤلاء يعلمون بأننا عندما ننفي عن رموزنا في السياسة والفن والأدب مظاهر الحب، فإننا نسلبهم كل محاسنهم، وعندما نبعد عنهم سيرورة الحب الطبيعية، فإننا نحولهم إلى رهبان لا قيمة لإيمانهم لأنه قائم على الهجر والابتعاد أكثر من القناعة والمكابدة.
كان شوقي عاشقاً للحياة والطرب وابنة الكرم فأبدع.
وكان كنفاني متيماً بغادة في مرحلة فوصل الذروة.
ومن لم يعش هكذا فلا قيمة لأدبه ولا لنضاله ولا لحياته مهما تغنى به الأتباع.