قضايا وآراء

عودة من جديد إلى فيينا

| عبد المنعم علي عيسى

بعد ثلاثة أشهر من وصولها للسلطة، أي منذ شهر نيسان من عام 2021، أطلقت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المفاوضات الرامية لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، الذي ألغاه الرئيس السابق دونالد ترامب منذ عام 2018.

وعلى الرغم من أن ذلك الفعل كان مدرجا ضمن الأولويات التي احتوتها الحملة الانتخابية للأول، إلا أن المدة القصيرة تشير إلى أن الرؤيا حاسمة هنا بوجود مصلحة أميركية تقضي بالعودة إلى ذلك الاتفاق، فالأشهر الأولى من عمر الإدارات الأميركية، والتي قد تمتد إلى ستة، غالباً ما تكون لترتيب أوراقها الداخلية، ثم لوضع البرامج اللازمة لتنفيذ الوعود الانتخابية وتحديد الأولويات فيها.

انطلقت عجلة المفاوضات بوتيرة جيدة خلال الأشهر الأولى قبيل أن يجري الإعلان عن توقفها في شهر آذار المنصرم، حيث سيترافق هذا الأخير بنظير له يتضمن الحديث عن «وجود نقاط خلافية» أكدتها تقارير إعلامية وازنة، وهي تتمحور حول نقطتين، أولاهما مطالبة طهران بـ«ضمانات» من شأنها أن تحول بين الاتفاق المزمع عقده وبين إمكان أن يلقى المصير الذي لقيه سلفه، وثانيتهما مطالبة طهران أيضاً برفع «الحرس الثوري الإيراني» عن لوائح «الإرهاب الأميركية»، ومن الراجح أن كلا المطلبين كانا قد جرى التوصل حولهما إلى حلول وسطية قبيل انطلاق جولة التفاوض الحاصلة في الدوحة في شهر حزيران الماضي، التي شابها في نهايتها تطور كان من النوع الذي يشي بإمكان دخول المفاوضات في نفق مظلم قد يطول، ففي اللحظات الأخيرة تقدمت موسكو بطلب الحصول على «ضمانات مكتوبة» بألا تكون العقوبات الغربية المفروضة عليها بعد الحرب على أوكرانيا ضارة بالتعاون بين موسكو وطهران بموجب الاتفاق النووي الجديد.

وتشي الفترة القصيرة أيضاً هنا التي فصلت بين جولة الدوحة والجولة التي عقدت في فيينا بين 4 و7 آب الجاري بأن الأطراف كلها ترغب في طي هذا الملف والوصول إلى توافقات نهائية فيه، مع تسجيل نزعة إيرانية تميل من خلالها طهران للتريث انطلاقاً من رؤيا مفادها أن الرياح الإقليمية وكذا الدولية تسمح بمراكمة المزيد من المكاسب، ولربما كانت هذه الرؤيا، التي قرأها الغرب جيداً، هي التي تقف وراء تقديم الاتحاد الأوروبي لـ«نص نهائي» قال إنه غير قابل للتعديل، وفي توصيفه قال منسق الشؤون الخارجية في الاتحاد، جوزيب بوريل، إنه يتضمن «تنازلات تم الحصول عليها بشق الأنفس من قبل جميع الأطراف»، قبيل أن يشير إلى أنها «تتناول بالتفصيل الدقيق رفع العقوبات، إضافة إلى الخطوات النووية اللازمة لاستعادة اتفاق 2015»، وفي المواقف على ضفتي المفاوضات قال الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية فيدانت ناتيل يوم الخميس 11 آب الجاري: «نحن على استعداد للتوقيع، ولتنفيذ الاتفاق الذي تفاوضنا عليه في فيينا على الفور، من أجل العودة المتبادلة إلى التنفيذ الكامل لخطة العمل المشتركة»، في إشارة للاتفاق النووي مع إيران الذي تستخدم واشنطن المصطلح الأخير، الذي استخدمه ناتيل في تصريحه، عند الإتيان على ذكر ذلك الاتفاق، وهذا يعني توافقاً أميركياً – أوروبياً تاماً لا بد أن يدخل في صميم الحسابات الإيرانية إبان تحديد طهران موقفها من ذلك «النص».

طهران قالت إن النص الأوروبي «لا يزال قيد المراجعة»، وإنها سوف تقدم «آراء إضافية»، وقد يكون القول الأول مبرراً أوروبياً، لكن الثاني ليس كذلك ولا أميركياً أيضاً، فالنص كما يبدو جاء نتيجة لحسابات أوروبية تلحظ النقطة التي يمكن التوافق عندها بين طرفي المفاوضات الغربي والإيراني، وتلك النقطة سوف يكون من الصعب تغيير إحداثياتها، الأمر الذي تكشفه تصريحات جوزيب بوريل سابقة الذكر، ومن المؤكد أن الأوروبيين قد ذهبوا في سلوكهم نحو تقديم «النص» والتصريحات التي أعقبته للقول إن ماكينة التفاوض قد توقفت عند هذه النقطة، وعليه فإن طهران هي أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول أن تقبل بـ«النص الأوروبي» جملة وتفصيلاً، والثاني أن ترفضه جملة وتفصيلاً أيضاً، وفي الخيارين تبدو طهران موقنة بأن الوقت يسير لمصلحتها، ولربما كان ذلك صحيحاً إلى حد ما، الأمر الذي دفعها لتضمين مطلبها السابق، الذي سبق لها أن طالبت به الوكالة الدولية للطاقة الذرية برفع قضية العثور على آثار لمواد نووية في مواقع غير معلنة على الإطلاق من التداول تماماً، وعلى الرغم من أنها تدرك أن ذلك الموقف هو «تقني» بالدرجة الأولى، بمعنى أن الجهة المخولة للبت فيه هي وكالة الطاقة الدولية، إلا أنها تريد تدعيم ذلك بموقف سياسي ولو جاء ذلك ملحقاً بالنص الأوروبي، وهذا يتأتى عندها من أن صناعة القرار التقني داخل الوكالة الدولية ليست ببعيدة عن صناعة القرار السياسي في دوائر الغرب، الأمر الذي أثبتته التجربة العراقية التي سبقت غزو العراق وإسقاط عاصمته على يد الأميركيين، حيث الخشية هنا من أن بقاء التجاذب حول هذه النقطة سيقود حتماً إلى أحد مسارين: الأول أن يلقى الاتفاق المزعوم مصير سلفه بذريعة الإخلال ببنود الاتفاقين الأول والثاني، والثاني أن يقود إلى أزمة كبرى بين الوكالة الدولية للطاقة وبين طهران تسير على وقع الاستقطابات الدولية ووقع حالة الاحتياج التي قد تفرضها التراصفات الإيرانية الراهنة واللاحقة إلى مسار شبيه بالمسار العراقي.

الراجح اليوم أن طهران باتت تدرك أن مسألة الوقت هي عامل حاسم في طريقة التعاطي الغربي مع ملفها النووي، وأن تلك المسألة باتت أيضاً أولوية في ذلك التعاطي، فطوله، أي طول الوقت، يفتح الباب واسعاً أمام خيارات هي في أدناها اندلاع نار «محدودة»، عبر وكلاء إقليميين، تهدف إلى خلق أوضاع وخيارات وعوامل جديدة في هذا المسار البادئ منذ صيف عام 2005.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن