من دفتر الوطن

حلب.. الخراب الأجمل

| فراس عزيز ديب

من جديدٍ عانقت الروح حلب، هل أتاكَ ذاك الشعور حيث تتزاحم الصور في ثنايا الفكرة، حيث ينحبس الدمع أمام عزةِ النفس والانتماء لمن عاهدوا فصدقوا؟

هناك حيث نبتَ الريحان على حروفٍ رسمت أبجديات دعساتهم، حيث وقفت حتى الحجارة وقفةَ شموخٍ بوجهِ من يظنون بأن اللـه لم يهدِ سواهم لا تهاب دعواتهم ولا ادعاءهم بأن اللـه سينصر الغدر على الوفاء وسيستبدلنا بقومٍ على هيأتِهم أقوياء على الحق بالباطل!

أن تدخلَ خان الوزير بعد أن ظنِّ البيادق وخلفهم الخدم بأن رقعة الشطرنج تلك ستأتي على مُلكِ الملك، ليرحلوا جميعهم حتى من دون أحصنتهم ليبقى باب هذا الخان يختصر بزخارفهِ التي تحتضن هلالاً وصليباً مشرَّعاً لمن يدخلها بسلامٍ موصداً بوجهِ من اتخذَ الشيطان ولياً ونصيراً وتبقى جدران الخان شاهدة على أن هذه المدينة خُلقت بعدَ أن استوى اللـه على العرش وقال للعز كُن.. فكانت حلب!

هناك حيثُ عبثوا مع سيف الدولة فأرادوا تصفية ثأراتٍ قديمة معه، حاولوا سرقةَ حتى سيفه عساهم يحصلون بسيفٍ باطلٍ حقاً لا يموت، سترى آثارَ حقدهم على المآذنِ والقباب، على الزخارف التي تعلو النوافذ فزادتها بريقاً وجعلتها مفتوحة على التاريخ، وجدوا في هذه الشواهد مكسر عصا لن يحاسبهم أحد على العبثِ بها، كيف سيحدث هذا وهم ومن أرسلهم قادمون من خارجِ التاريخ.

أن تجتاز المدينة القديمة وصولاً إلى القلعة ينتابك شعور غريب وأنت تتساءل:

لماذا نبتسم والخراب من حولنا؟ هل هذهِ المدينة جميلة حتى بخرابها أم إن هذا الخراب أفضل من الضياع؟

قرأت هذه المقاربة بعيون أطفالي وهم يحاولون توثيقَ كل حجرٍ ما زال صامداً، قرأتُ في صمتهم رسالة وفاءٍ تقول: لولاهم لما كنا هنا!

معادلة غريبة تلك التي فرضها الدمار الجميل هل حقاً قد يصح هذا المصطلح؟ لا أعلم، ربما هناك من سيلومني على هذا التوصيف لكن مهلاً وهل من عاقلٍ.

يمجد الخراب؟! الفكرة ببساطة أبعدَ من مجرد خراب ما فرضتها قدرتك على استقراء أن المعارك هنا كانت تتم بين حجرٍ وحجر، بين نافذةٍ ونافذة، بين بابٍ سرقه التطرف وأبواب حماها من أودعناهم أماناتنا، يا لهؤلاءِ الشجعان! طبقوا حرفياً تلك الحكمة القائلة:

عندما أرفع سيفي لأقاتل علي ألا أُفكر بمن سيموت بل بمن سيعيش، ستقرأ هذه الحكمة على جذعِ كل شجرة خبأ يوماً رجلاً من رجال اللـه على الأرض، ستقرؤه في عيون كل من خاف يوماً انتصار الباطل.. إن الباطل كان زهوقا.

لا أعرف حقيقة ما هي خطة الدولة السورية بما يتعلق في إعادة إعمار حلب القديمة وإن كانت أعمال الترميم للأسواق والمباني الأثرية كالجامع الأموي بدأت، لكن ما أقترحه فعلياً أن يبقى أحد هذه المباني كما هو، لا تعيدوا بناءه اتركوه شاهداً على أن هذه المدينة «شابت على عتباتها نواصي الدهر وهي لم تشب».. اتركوه ليرى من لم يعش هذه الحرب اللعينة أي قذارة كنا نحارب، اتركوه ليعرف الجميع لماذا اختارَ «مجنون» بحب هذه المدينة يوماً أن يقول والدمعة في عينيه:

هذه المدينة أحبها حتى في خرابها.. جميلةٌ هي حتى في خرابها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن