ناظم الجعفري محور الحوار عن الفن وأسلوب تدريسه … نال لجنة جائزة المعرض السنوي الأولى مناصفة مع محمود جلال.. على الرغم من خصوصيته الشخصية فهو معلم محترف يقرّ الآخرون بمهارته
| سعد القاسم
تتابع هذه الحلقة الحديث عن الرائد المعلم ناظم الجعفري منطلقة من وجهات النظر شديدة التباين عنه (لا عن تجربته)، حيث يكاد الحديث عن التجربة يختفي وراء ما هو شخصي، وتضيع الحدود بين أسلوبه الفني، وبين شخصه وأسلوبه التدريسي.
الجعفري والجوائز
لا شك أن طبيعة ناظم الجعفري قد ساهمت إلى حد كبير في وجود هذه الحالة. وفي إيراد حوادث وحكايات عنه، لا تمتلك ما يؤيدها. أو تفتقد الدقة – على أقل تقدير – ومنها أنه قاطع المعرض السنوي بعد سنته الأولى عام 1950 لأن لجنة المعرض منحته الجائزة الأولى في الرسم مناصفة مع محمود جلال، في حين أن أياً من الفنانين لم ينل أي جائزة من ذلك المعرض، وإنما نالاها – مناصفة – في العام التالي (1951). ولم يقاطع الجعفري المعرض بعد ذلك إذ شارك في معرض عام 1952 ونال الجائزة الثالثة بعد فاتح المدرس ونصير شورى – دون اعتراض – ثم شارك في معرض عام 1955 ولم يحصل على أي جائزة. ومع ذلك شارك في معرض 1956 ولم يُمنح أيضا أي جائزة.
إن السجل السابق يجعل من الصعب القبول بالحكاية المتداولة عن اعتراض الجعفري على منحه الجائزة مناصفة، خاصة مع المعلم جلال الذي حظي بتقدير واسع من الفنانين التشكيليين في الخمسينيات، وكان بالنسبة لهم بمنزلة الأب الروحي، أو الأخ الأكبر، ويضاف إلى ذلك أن أسلوب جلال الأكاديمي، ومهارته يتفقان مع مفاهيم الجعفري الفنية، وخاصة لجهة التمكن من الرسم وبناء اللوحة. ويدعم وجهة النظر هذه، عدم وجود أي نصٍ يوثق اعتراض الجعفري، وكذلك مشاركة الجعفري – بعد ذلك – في تجمعات فنية كان جلال محورها.
المصور البارع
يشير الفنان بطرس المعري في مقالة مهمة نشرها عن الجعفري إثر رحيله إلى أنه على الرغم من كونه (الجعفري) شخصاً مزاجياً وعنيداً ومتغطرساً، فهو فنان ومُعلّم محترف يُقرُّ مصورون سوريون أفذاذ تتلمذوا على يديه، أمثال نذير نبعة، بفضله على جيلهم كمعلم متمكن من أدواته، عارف بتقنيات التصوير الزيتي. فيما يرى أسعد عرابي – كما جاء في المقالة – أن كل الأسماء التقليدية التي يطرحها تاريخ الفن في سورية قبل ناظم الجعفري كانوا مجرد مُقلّدين، لم يستطيعوا بناء علاقة ما بين لوحتهم والخصائص الثقافية للمنطقة. واكتشاف الجعفري لخصائص الضوء المحلي هو بداية المحترف السوري، واسترشاده بأستاذه في القاهرة يوسف كامل، الذي كان يبحث من خلال الضوء المصري المحلي عن ممتلكات انطباعية مصرية.
الجعفري والانطباعية
هل يسمح ما سبق بإدراج تجربة الجعفري تحت عنوان الانطباعية؟
في مقابلة نشرت في مجلة (العالم) اللندنية مطلع عام 2005 قال له الصحفي وحيد تاجا: «يلاحظ في أعمالك أنك من المدرسة الانطباعية» فأجابه الجعفري «إن عملي الفني ميزاته الرسم والتصوير الصحيح والتعبير والتحليل النفسي وغنى الألوان وجرأة العمل والقدرة العالية والإبداع والتنوع الذي شمل كل ما في الطبيعة».
هذا المفهوم لا يتطابق مع مبادئ الانطباعية، وخاصة لجهة دقة الرسم واستخدام اللونين الأبيض والأسود، لكنه في الوقت ذاته لا يتعارض كلياً معها، وربما لهذا السبب لم يشمل الجعفري الانطباعية في هجومه على تيارات الفن الحديث، حين اعتبر أن: «السريالية والتجريدية والتكعيبية، مفسدة للذوق العام وتشويه للطبيعة التي خلقها الله سبحانه وتعالى» كما قال في المقابلة ذاتها. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن أراء الجعفري الصريحة والعلنية قد كررها بكثير من التعالي في وقت تبنى فيه كثير من المصورين الكبار مفاهيم الحداثة، لا يعود مستغرباً عدم القبول المتبادل بين الطرفين. ويستشهد بطرس المعري في مقالته بما جاء في الكتاب الذي أصدره الجعفري عن نفسه عام 2005، والذي تجاهل فيه أي مصور سواه. و كذلك بآراء مصورين معاصرين له. فالمعلم إلياس زيات الذي لا يبخس الجعفري حقه كمصور من المؤسسين الأوائل مختلف عن غيره، ويملك ضربات انطباعية جريئة. يأخذ عليه «تقوقعه واستكانته إلى ما وصل إليه من نتائج في بدايات إنتاجه الفني وعدم استطاعته الخروج منها أو تطويرها». فيما يرى ممدوح قشلان أن الجعفري قد «سرقته الصنعة».
الجعفري وطلابه
مفهوم الجعفري الفني تبناه طلاب مميزون كزياد الرومي وعز الدين همت، الذي كان يخرج مثله للرسم عن الطبيعة مباشرة. لكن طلاباً آخرين خرجوا بعد ذلك عن توجهه وأسلوبه، وقد جاء في مقالة بطرس المعري: «كان أسعد عرابي من طلاب ناظم في الثانوية كما في السنة الأولى في كلية الفنون الجميلة بدمشق لاحقاً. لكنه استطاع أن يستقل عن أستاذه ليصبح بينهما ذلك الاختلاف الجذري في الرؤية والأسلوب. فالجعفري بحسب عرابي هو فنّان مهم لكنه أستاذ مُدمِّر، لأنه كان متمسكاً بالنتائج التي توصل إليها من خلال دراسته الأكاديمية وتجربته في التصوير، ولم يكن يقبل أي وجهة نظر مغايرة لنظرته هو. ويؤكد الراحل صخر فرزات هذه الحقيقة حين يقول: تأثرت بناظم في بدايتي، حيث كان مُدرِّسي في الثانوية ثم في كلية الفنون الجميلة في دمشق وفي مرسمه الذي ترددت عليه مراراً. لكن اطلاعي على بعض كتب الفن الحديث، النادرة في ذلك الحين، وترددي على محاضرات تاريخ الفن التي كان يدرسها الأستاذ محمود حوّا، ومن ثم اللقاءات مع أورخان ميسر وأيضاً مع فاتح المدرس بعد عودته من روما للتدريس والعمل في دمشق، أثَّر عليّ وجعلني أخرج من فلكه، ولولا ذلك لظللت حتى الآن رساما واقعياً تقليدياً».
طبيعته منعته من الفعل
السؤال الذي تطرحه تجربة الجعفري في شقيها الإبداعي والتعليمي: هل وجدت الحداثة إلا عبر تاريخ طويل من الواقعية التقليدية، فالطبيعية؟ ثم: هل يتعارض وجود رسام حداثي مع وجود آخر واقعي؟
من جهتي أرى أن ناظم الجعفري كان مؤهلاً بفضل أسلوبه الواقعي – الانطباعي لتقليص الفجوة بين الجمهور السوري والفن التشكيلي، في مرحلة بالغة الأهمية والحساسية والحيوية. بحكم وفرة عدد لوحاته الذي تخطى الأربعة آلاف، وقربها من الناس. وبالتالي كان بإمكانه الإسهام – سواء برغبته أو دونها – بمساعدة هذا الجمهور لا على تقبل الفن الواقعي الانطباعي فحسب، وإنما أيضاً على تقبل الاتجاهات التالية. لكن الجعفري، وبحكم حساسيته الصعبة، لم يفعل.